الفائدة الخامسة عشرة : تمسكت
الجبرية والقدرية بقوله : الحمد لله ؛ أما
الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه :
الأول : أن كل
من كان فعله أشرف وأكمل ، وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل ، كان استحقاقه للحمد أكثر ، ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان ، فلو كان الإيمان فعلا للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى وأجل من استحقاق الله له ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق الله لا بخلق العبد .
الثاني : أجمعت الأمة على قولهم :
الحمد لله على نعمة الإيمان ، لو كان الإيمان فعلا للعبد وما كان فعلا لله لكان قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان باطلا ، فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلا له باطل قبيح ؛ لقوله تعالى : (
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ) [ آل عمران : 188 ] .
الثالث : أنا قد دللنا على أن قوله :
الحمد لله يدل ظاهره على أن كل الحمد لله ، وأنه ليس لغير الله حمد أصلا ، وإنما يكون كل الحمد لله لو كان كل النعم من الله ، والإيمان أفضل النعم ، فوجب أن يكون الإيمان من الله .
الرابع : أن قوله : الحمد لله مدح منه لنفسه ، ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق ، فلما بدأ كتابه بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق ، وأنه يحسن من الله ما يقبح من الخلق ، وذلك يدل على
أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق ، فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من الله تعالى ، وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية .
والخامس : أن عند
المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ، ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن ، وإلا كانت عبثا ، وذلك في حقه محال ، والزائدة على الحسن إما أن تكون واجبة ، وإما أن تكون من باب التفضل : أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين ، وأما الذي يكون من باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان ، فنقول : هذا يقدح في كونه تعالى مستحقا للحمد ويبطل صحة قولنا : الحمد لله ، وتقريره أن نقول : أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ، ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد ، فلو وجب على الله فعل لكان ذلك الفعل مخلصا له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد ، وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد ؛ لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد ، وإذا كان كذلك كان ناقصا لذاته مستكملا بغيره ، وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقا للحمد
[ ص: 185 ] والمدح .
السادس : قوله : (
الحمد لله ) يدل على أنه تعالى محمود ، فنقول : استحقاقه الحمد والمدح إما أن يكون أمرا ثابتا له لذاته أو ليس ثابتا لذاته ، فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق المدح ؛ لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره ، وامتنع أيضا أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق الذم ؛ لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره ، وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه ، فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثواب ، وذلك يهدم أصول
المعتزلة ، وأما القسم الثاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتا له لذاته - فنقول : فيلزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره ، وذلك على الله محال ، أما
المعتزلة فقالوا : إن قوله : الحمد لله لا يتم إلا على قولنا ؛ لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله ، ولا جور في أقضيته ، ولا ظلم في أحكامه ، وعندنا أن الله تعالى كذلك ، فكان مستحقا لأعظم المحامد والمدائح ، أما على مذهب
الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله ، ولا جور إلا وهو حكمه ، ولا عبث إلا وهو صنعه ؛ لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ، ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها ، فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقا للحمد ؟ وأيضا فذلك الحمد الذي يستحقه الله تعالى بسبب الإلهية إما أن يستحقه على العبد ، أو على نفسه ، فإن كان الأول وجب كون العبد قادرا على الفعل ، وذلك يبطل القول بالجبر ، وإن كان الثاني كان معناه أن الله يجب عليه أن يحمد نفسه ، وذلك باطل ، قالوا : فثبت أن القول بالحمد لله لا يصح إلا على قولنا .
الفائدة السادسة عشرة : اختلفوا في أن
وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع ؛ من الناس من قال : إنه ثابت بالسمع ؛ لقوله تعالى : (
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [ الإسراء : 15 ] ولقوله تعالى : (
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ النساء : 165 ] ومنهم من قال : إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق ، والدليل عليه قوله تعالى : (
الحمد لله ) وبيانه من وجوه :
الأول : أن قوله : (
الحمد لله ) يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق ، وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع .
الثاني : أنه تعالى قال : (
الحمد لله رب العالمين ) وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ، فهاهنا أثبت الحمد لنفسه ، ووصف نفسه بكونه تعالى ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم ، مالكا لعاقبة أمرهم في القيامة ، فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربيا لهم رحمانا رحيما بهم ، وإذا كان كذلك ثبت أن استحقاق الحمد ثابت لله تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده .
الفائدة السابعة عشرة : يجب علينا أن نبحث عن
حقيقة الحمد وماهيته فنقول : تحميد الله تعالى ليس عبارة عن قولنا : الحمد لله ؛ لأن قولنا : الحمد لله إخبار عن حصول الحمد ، والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه ، فوجب أن يكون تحميد الله مغايرا لقولنا : الحمد لله ، فنقول : حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما . وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب ، أو فعل اللسان ، أو فعل الجوارح ، أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفا بصفات الكمال والإجلال ، وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظا دالة على كونه موصوفا بصفات الكمال ، وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفا بصفات الكمال والإجلال ، فهذا هو المراد من الحمد ، واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام
[ ص: 186 ] فريقين : الفريق الأول : الذين قالوا : إنه لا يجوز أن يأمر الله عبيده بأن يحمدوه ، واحتجوا عليه بوجوه :
الأول : أن ذلك التحميد إما أن يكون بناء على إنعام وصل إليهم أو لا ، وبناء عليه ، فالأول باطل ؛ لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة ، وذلك يقدح في كمال الكرم ، فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة ، وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء ، وذلك يوجب الظلم .
الثاني : قالوا : الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود ؛ لأنه كامل لذاته والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره ، فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر ، فوجب أن لا يكون مشروعا .
الثالث : أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب ، فإيجاب حمد الله تعالى معناه أنه قال : لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك ، وهذا الحمد لا نفع له في حق الله ، فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد ، ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد ، وهذا لا يليق بالحكم الكريم . الفريق الثاني : قالوا : الاشتغال بحمد الله سوء أدب من وجوه :
الأول : أنه يجري مجرى مقابلة إحسان الله بذلك الشكر القليل .
والثاني : أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم .
الثالث : أن الثناء على الله تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم ، وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم ، وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس ، وذلك مقام نازل ، والله أعلم .