[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
(
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) .
قوله تعالى : (
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) .
اعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى
لليهود المنكرين لوجوب الرجم ، وترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم والأنبياء المبعوثين إليهم ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فوجب حصول
الفرق بين الهدى والنور ، فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والتكاليف ، والنور بيان للتوحيد والنبوة والمعاد .
قال
الزجاج : ( فيها هدى ) أي بيان الحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي صلى الله عليه وسلم ( ونور ) بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق .
المسألة الثانية : احتج
القائلون بأن شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا بهذه الآية ، وتقريره أنه تعالى قال : إن في التوراة هدى ونورا ، والمراد كونه هدى ونورا في أصول الشرع وفروعه ، ولو كان منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيه هدى ونور ، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط لأنه ذكر الهدى والنور ، ولو كان المراد منهما معا هو ما يتعلق بأصول الدين لزم التكرار ، وأيضا إن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم ، فلا بد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة في الآية ; لأنا وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا ، لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها .
المسألة الثالثة : قوله (
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) يريد النبيين الذين كانوا بعد
[ ص: 4 ] موسى ، وذلك أن الله تعالى بعث في
بني إسرائيل ألوفا من الأنبياء ليس معهم كتاب ، إنما بعثهم بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها .
فإن قيل :
كل نبي لا بد وأن يكون مسلما ، فما الفائدة في قوله : ( النبيون الذين أسلموا ) ؟ .
قلنا فيه وجوه :
الأول : المراد بقوله : (
أسلموا ) أي انقادوا لحكم التوراة ، فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة ، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث
موسى إلى مبعث
عيسى عليهما السلام .
الثاني : قال
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو
محمد عليه الصلاة والسلام ; وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حكم على اليهوديين بالرجم ، وكان هذا حكم التوراة ، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له ، كقوله تعالى : (
إن إبراهيم كان أمة ) [ النحل : 120 ] ، وقوله : (
أم يحسدون الناس ) [ النساء : 45 ] وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء .
الثالث : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : هذا رد على
اليهود والنصارى ; لأن بعضهم كانوا يقولون : الأنبياء كلهم
يهود أو
نصارى ، فقال تعالى : (
يحكم بها النبيون الذين أسلموا ) يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية ، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه .
الرابع : المراد بقوله : (
النبيون الذين أسلموا ) يعني الذين كان مقصودهم من الحكم بالتوراة الإيمان والإسلام وإظهار أحكام الله تعالى والانقياد لتكاليفه ، والغرض منه التنبيه على قبح طريقة هؤلاء
اليهود المتأخرين ، فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام .
المسألة الرابعة : قوله (
للذين هادوا ) فيه وجهان :
الأول : المعنى أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا ، أي لأجلهم وفيما بينهم .
والثاني : يجوز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير على معنى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا .
المسألة الخامسة : أما الربانيون فقد تقدم تفسيره ، وأما الأحبار فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هم الفقهاء ،
واختلف أهل اللغة في واحده ، قال
الفراء : إنما هو "حبر" بكسر الحاء ، يقال ذلك للعالم وإنما سمي بهذا الاسم لمكان الحبر الذي يكتب به ، وذلك أنه يكون صاحب كتب ، وكان
أبو عبيدة يقول : حبر بفتح الحاء ، قال
الليث : هو حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : لا أدري أهو الحبر أو الحبر ، وأما اشتقاقه فقال قوم : أصله من التحبير وهو التحسين ، وفي الحديث : "
يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره " أي جماله وبهاؤه ، والمحبر للشيء المزين ، ولما كان العلم أكمل أقسام الفضيلة والجمال والمنقبة لا جرم سمي العالم به .
وقال آخرون : اشتقاقه من الحبر الذي يكتب به ، وهو قول
الفراء والكسائي وأبي عبيدة ، والله أعلم .
المسألة السادسة : دلت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار ، وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالا من الأحبار ، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين ، والأحبار كآحاد العلماء .