ولنا في هذه الآية مقامات :
المقام الأول : أن هذه الآية من أدل الدلائل على
فساد مذهب الإمامية من الروافض ، وتقرير مذهبهم
[ ص: 19 ] أن الذين أقروا بخلافة
أبي بكر وإمامته كلهم كفروا وصاروا مرتدين ; لأنهم أنكروا النص الجلي على إمامة
علي عليه الصلاة والسلام ، فنقول : لو كان كذلك لجاء الله تعالى بقوم يحاربهم ويقهرهم ويردهم إلى الدين الحق بدليل قوله : (
من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم ) إلى آخر الآية ، وكلمة " من " في معرض الشرط للعموم ، فهي تدل على أن كل من صار مرتدا عن دين الإسلام فإن الله يأتي بقوم يقهرهم ويردهم ويبطل شوكتهم ، فلو كان الذين نصبوا
أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي الله بقوم يقهرهم ويبطل مذهبهم ، ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد ، فإن
الروافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مقالاتهم الباطلة أبدا منذ كانوا علمنا فساد مقالتهم ومذهبهم ، وهذا كلام ظاهر لمن أنصف .
المقام الثاني : أنا ندعي أن هذه الآية يجب أن يقال : إنها نزلت في حق
أبي بكر رضي الله عنه ، والدليل عليه وجهان :
الأول : أن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين ،
وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين على ما شرحنا ، ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام ; لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين ، ولأنه تعالى قال : (
فسوف يأتي الله ) وهذا للاستقبال لا للحال ، فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب .
فإن قيل : هذا لازم عليكم ; لأن
أبا بكر رضي الله عنه كان موجودا في ذلك الوقت .
قلنا : الجواب من وجهين :
الأول : أن القوم الذين قاتل بهم
أبو بكر أهل الردة ما كانوا موجودين في الحال .
والثاني : أن معنى الآية أن الله تعالى قال : فسوف يأتي الله بقوم قادرين متمكنين من هذا الحراب ،
وأبو بكر وإن كان موجودا في ذلك الوقت إلا أنه ما كان مستقلا في ذلك الوقت بالحراب والأمر والنهي ، فزال السؤال ، فثبت أنه لا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولا يمكن أيضا أن يكون المراد هو
علي عليه السلام ; لأن
عليا لم يتفق له قتال مع أهل الردة ، فكيف تحمل هذه الآية عليه ؟ .
فإن قالوا : بل كان قتاله مع أهل الردة ; لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتدا .
قلنا : هذا باطل من وجهين :
الأول : أن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركا للشرائع الإسلامية ، والقوم الذين نازعوا
عليا ما كانوا كذلك في الظاهر ، وما كان أحد يقول : إنه إنما يحاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام ،
وعلي عليه السلام لم يسمهم ألبتة بالمرتدين ، فهذا الذي يقوله هؤلاء
الروافض لعنهم الله بهت على جميع المسلمين وعلى
علي أيضا .
الثاني : أنه لو كان كل من نازعه في الإمامة كان مرتدا لزم في
أبي بكر وفي قومه أن يكونوا مرتدين ، ولو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح ، ولما لم يوجد ذلك ألبتة علمنا أن منازعة
علي في الإمامة لا تكون ردة ، وإذا لم تكن ردة لم يمكن حمل الآية على
علي ; لأنها نازلة فيمن يحارب المرتدين ، ولا يمكن أيضا أن يقال : إنها نازلة في
أهل اليمن أو في
أهل فارس ; لأنه لم يتفق لهم محاربة مع المرتدين ، وبتقدير أن يقال : اتفقت لهم هذه المحاربة ولكنهم كانوا رعية وأتباعا وأذنابا ، وكان الرئيس المطاع الآمر في تلك الواقعة هو
أبو بكر ، ومعلوم أن حمل الآية على من كان أصلا في هذه العبادة ورئيسا مطاعا فيها أولى من حملها على الرعية والأتباع والأذناب ، فظهر بما ذكرنا من الدليل الظاهر أن هذه الآية مختصة
بأبي بكر .
والوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة
بأبي بكر : هو أنا نقول : هب أن
عليا كان قد حارب
[ ص: 20 ] المرتدين ، ولكن
محاربة أبي بكر مع المرتدين كانت أعلى حالا وأكثر موقعا في الإسلام من محاربة
علي مع من خالفه في الإمامة ; وذلك لأنه علم بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم لما توفي اضطربت الأعراب وتمردوا ، وأن
أبا بكر هو الذي قهر
مسيلمة وطليحة ، وهو الذي حارب الطوائف السبعة المرتدين ، وهو الذي حارب مانعي الزكاة ، ولما فعل ذلك استقر الإسلام وعظمت شوكته وانبسطت دولته ، أما لما انتهى الأمر إلى
علي عليه السلام فكان الإسلام قد انبسط في الشرق والغرب ، وصار ملوك الدنيا مقهورين ، وصار الإسلام مستوليا على جميع الأديان والملل ، فثبت أن محاربة
أبي بكر رضي الله عنه أعظم تأثيرا في نصرة الإسلام وتقويته من محاربة
علي عليه السلام ، ومعلوم أن المقصود من هذه الآية تعظيم قوم يسعون في تقوية الدين ونصرة الإسلام ، ولما كان
أبو بكر هو المتولي لذلك وجب أن يكون هو المراد بالآية .
المقام الثالث في هذه الآية : وهو أنا ندعي دلالة هذه الآية على
صحة إمامة أبي بكر ; وذلك لأنه لما ثبت بما ذكرنا أن هذه الآية مختصة به ، فنقول : إنه تعالى وصف الذين أرادهم بهذه الآية بصفات :
أولها : أنه يحبهم ويحبونه .
فلما ثبت أن المراد بهذه الآية هو
أبو بكر ثبت أن قوله : (
يحبهم ويحبونه ) وصف
لأبي بكر ، ومن وصفه الله تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالما ، وذلك يدل على أنه كان محقا في إمامته .
وثانيها : قوله : (
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) وهو صفة
أبي بكر أيضا للدليل الذي ذكرناه ، ويؤكده ما روي في الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012565أرحم أمتي بأمتي أبو بكر فكان موصوفا بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكفار ، ألا ترى أن في أول الأمر حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم في
مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكيف كان يلازمه ويخدمه ، وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم ، وفي آخر الأمر أعني وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد ، وأصر على أنه لا بد من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده ، حتى جاء أكابر الصحابة وتضرعوا إليه ومنعوه من الذهاب ، ثم لما بلغ بعث العسكر إليهم انهزموا وجعل الله تعالى ذلك مبدأ لدولة الإسلام ، فكان قوله : (
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) لا يليق إلا به .
وثالثها : قوله : (
يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) فهذا مشترك فيه بين
أبي بكر وعلي ، إلا أن حظ
أبي بكر فيه أتم وأكمل ; وذلك لأن مجاهدة
أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعث ، وهناك الإسلام كان في غاية الضعف ، والكفر كان في غاية القوة ، وكان يجاهد الكفار بمقدار قدرته ، ويذب عن رسول الله بغاية وسعه ، وأما
علي عليه السلام فإنه إنما شرع في الجهاد يوم
بدر وأحد ، وفي ذلك الوقت كان الإسلام قويا وكانت العساكر مجتمعة ، فثبت أن جهاد
أبي بكر كان أكمل من جهاد
علي من وجهين :
الأول : أنه كان متقدما عليه في الزمان ، فكان أفضل لقوله تعالى : (
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) [الحديد : 10] .
والثاني : أن جهاد
أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجهاد
علي كان في وقت القوة .
ورابعها : قوله : (
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) وهذا لائق
بأبي بكر ; لأنه متأكد بقوله تعالى : (
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) [النور : 22] وقد بينا أن هذه الآية في
أبي بكر ، ومما يدل على أن جميع هذه الصفات
لأبي بكر أنا بينا بالدليل أن هذه الآية لا بد وأن تكون في
أبي بكر ، ومتى كان الأمر كذلك كانت هذه الصفات لا بد وأن تكون
[ ص: 21 ] لأبي بكر ، وإذا ثبت هذا وجب القطع بصحة إمامته ، إذ لو كانت إمامته باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنه كان موصوفا بهذه الصفات حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد وفاته لما شرع في الإمامة زالت هذه الصفات وبطلت .
قلنا : هذا باطل قطعا ; لأنه تعالى قال : (
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصفة حال إتيان الله بهم في المستقبل ، وذلك يدل على شهادة الله له بكونه موصوفا بهذه الصفات حال محاربته مع أهل الردة ، وذلك هو حال إمامته ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على صحة إمامته ، أما قول
الروافض لعنهم الله : إن هذه الآية في حق
علي رضي الله عنه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم
خيبر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012566لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وكان ذلك هو
علي عليه السلام ، فنقول : هذا الخبر من باب الآحاد ، وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل ، فكيف يجوز التمسك به في العلم ؟ وأيضا أن إثبات هذه الصفة
لعلي لا يوجب انتفاءها عن
أبي بكر ، وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن
أبي بكر ، ومن جملة تلك الصفات كونه كرارا غير فرار ، فلما انتفى ذلك عن
أبي بكر لم يحصل مجموع تلك الصفات له ، فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب ، فأما انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة في اللفظ عليه ، فهو تعالى إنما أثبت هذه الصفة المذكورة في هذه الآية حال اشتغاله بمحاربة المرتدين بعد ذلك فهب أن تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت ، فلم يمنع ذلك من حصولها في الزمان المستقبل ; ولأن ما ذكرناه تمسك بظاهر القرآن ، وما ذكروه تمسك بالخبر المذكور المنقول بالآحاد ; ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون
أبي بكر محبا لله ولرسوله . وكون الله محبا له وراضيا عنه ، قال تعالى في حق
أبي بكر (
ولسوف يرضى ) [الليل : 21] وقال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012567إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة وقال :
ما صب الله شيئا في صدري إلا وصبه في صدر أبي بكر وكل ذلك يدل على أنه كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله .
وأما الوجه الثاني : وهو قولهم : الآية التي بعد هذه الآية دالة على إمامة
علي فوجب أن تكون هذه الآية نازلة في
علي ، فجوابنا : أنا لا نسلم دلالة الآية التي بعد هذه الآية على إمامة علي وسنذكر الكلام فيه إن شاء الله تعالى ، فهذا ما في هذا الموضع من البحث والله أعلم .
أما قوله تعالى : (
يحبهم ويحبونه ) فتحقيق الكلام في المحبة ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : (
والذين آمنوا أشد حبا لله ) [البقرة : 165] فلا فائدة في الإعادة ، وفيه دقيقة وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له ، وهذا حق ; لأنه لولا أن الله أحبهم وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له .
ثم قال تعالى : (
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) وهو كقوله (
أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [الفتح : 29] قال صاحب الكشاف : أذلة جمع ذليل ، وأما ذلول فجمعه ذلل ، وليس المراد بكونهم أذلة هو أنهم مهانون ، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب ، فإن من كان ذليلا عند إنسان فإنه ألبتة لا يظهر شيئا من التكبر والترفع ، بل لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا ههنا ، فقوله : (
أعزة على الكافرين ) أي يظهرون الغلظة والترفع على الكافرين ، وقيل : يعازونهم أي يغالبونهم من قولهم : عزه يعزه إذا غلبه ، كأنهم
[ ص: 22 ] مشددون عليهم بالقهر والغلبة .
فإن قيل : هلا قيل : أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين .
قلنا : فيه وجهان :
أحدهما : أن يضمن الذل معنى الرحمة والشفقة ، كأنه قيل : راحمين عليهم مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع .
والثاني : أنه تعالى ذكر كلمة ( على ) حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم ، فيفيد أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم ، بل ذاك التذلل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع ، وقرئ ( أذلة وأعزة ) بالنصب على الحال .
ثم قال تعالى : (
يجاهدون في سبيل الله ) أي لنصرة دين الله (
ولا يخافون لومة لائم ) وفيه وجهان :
الأول : أن تكون هذه الواو للحال ، فإن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم ، فبين الله تعالى في هذه الآية أن من كان قويا في الدين فإنه لا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه لومة لائم .
الثاني : أن تكون هذه الواو للعطف ، والمعنى أن من شأنهم أن يجاهدوا في سبيل الله لا لغرض آخر ، ومن شأنهم أنهم صلاب في نصرة الدين لا يبالون بلومة اللائمين ، واللومة المرة الواحدة من اللوم ، والتنكير فيها وفي اللائم مبالغة ، كأنه قيل : لا يخافون قط من لوم أحد من اللائمين .
ثم قال تعالى : (
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) فقوله ( ذلك ) إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف القوم بالمحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة ، فبين تعالى أن كل ذلك بفضله وإحسانه ، وذلك صريح في أن
طاعات العباد مخلوقة لله تعالى ،
والمعتزلة يحملون اللفظ على فعل الألطاف ، وهو بعيد لأن فعل الألطاف عام في حق الكل ، فلا بد في التخصيص من فائدة زائدة .
ثم قال تعالى : (
والله واسع عليم ) فالواسع إشارة إلى كمال القدرة ، والعليم إشارة إلى كمال العلم ، ولما أخبر الله تعالى أنه سيجيء بأقوام هذا شأنهم وصفتهم أكد ذلك بأنه كامل القدرة فلا يعجز عن هذا الموعود كامل العلم فيمتنع دخول الخلف في أخباره ومواعيده .