[ ص: 59 ] (
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) .
قوله تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) .
اعلم أن الله تعالى لما استقصى في المناظرة مع
اليهود والنصارى ، عاد بعده إلى بيان الأحكام وذكر جملة منها .
النوع الأول : ما يتعلق بحل المطاعم والمشارب واللذات ، فقال : (
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الطيبات : اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب ، وفي الآية قولان : الأول : روي أنه - صلى الله عليه وسلم - وصف يوم القيامة لأصحابه في بيت
nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون ، وبالغ وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير ، فعزموا على أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة ، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل ، وأن لا يناموا على الفرش ، ويخصوا أنفسهم ، ويلبسوا المسوح ، ويسيحوا في الأرض ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فقال لهم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012583إني لم أومر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقا ، فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وبهذا الكلام ظهر وجه النظم بين هذه الآية وبين ما قبلها ; وذلك لأنه تعالى مدح
النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانا ، وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ولذاتها ، فلما مدحهم أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطريقة ، فذكر تعالى [ ذلك ] عقيب هذه الآية إزالة لذلك الوهم ، ليظهر للمسلمين أنهم ليسوا مأمورين بذلك .
فإن قيل : ما الحكمة في هذا النهي ، فإن من المعلوم أن حب الدنيا مستول على الطباع والقلوب ، فإذا توسع الإنسان في اللذات والطيبات اشتد ميله إليها وعظمت رغبته فيها ، وكلما كانت تلك النعم أكثر وأدوم كان ذلك الميل أقوى وأعظم ، وكلما ازداد الميل قوة ورغبة ازداد حرصه في طلب الدنيا واستغراقه في تحصيلها ، وذلك يمنعه عن الاستغراق في معرفة الله وفي طاعته ، ويمنعه عن طلب سعادات الآخرة ، وأما إذا أعرض عن لذات الدنيا وطيباتها ، فكلما كان ذلك الإعراض أتم وأدوم كان ذلك الميل أضعف والرغبة أقل ، وحينئذ تتفرغ النفس لطلب معرفة الله تعالى والاستغراق في خدمته ، وإذا كان الأمر كذلك فما
الحكمة في نهي الله تعالى عن الرهبانية ؟
والجواب عنه من وجوه :
الأول : أن الرهبانية المفرطة والاحتراز التام عن الطيبات واللذات مما يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والدماغ ، وإذا وقع الضعف فيهما اختلت الفكرة وتشوش العقل . ولا شك أن أكمل السعادات وأعظم القربات إنما هو معرفة الله تعالى ، فإذا كانت الرهبانية الشديدة
[ ص: 60 ] مما يوقع الخلل في ذلك بالطريق الذي بيناه لا جرم وقع النهي عنها .
والثاني : وهو أن حاصل ما ذكرتم أن
اشتغال النفس بطلب اللذات الحسية يمنعها عن الاستكمال بالسعادات العقلية ، وهذا مسلم لكن في حق النفوس الضعيفة ، أما النفوس المستعلية الكاملة فإنها لا يكون استعمالها في الأعمال الحسية مانعا لها من الاستكمال بالسعادات العقلية ، فإنا نشاهد النفوس قد تكون ضعيفة بحيث متى اشتغلت بمهم امتنع عليها الاشتغال بمهم آخر ، وكلما كانت النفس أقوى كانت هذه الحالة أكمل ، وإذا كان كذلك كانت الرهبانية الخالصة دليلا على نوع من الضعف والقصور ، وإنما الكمال في الوفاء بالجهتين والاستكمال في الناس .
الثالث : وهو أن من استوفى اللذات الحسية كان غرضه منها الاستعانة بها على استيفاء اللذات العقلية ، فإن رياضته ومجاهدته أتم من رياضة من أعرض عن اللذات الحسية ، لأن
صرف حصة النفس إلى جانب الطاعة أشق وأشد من الإعراض عن حصة النفس بالكلية ، فكان الكمال في هذا أتم .
الرابع : وهو أن
الرهبانية التامة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل ، وأما ترك الرهبانية مع المواظبة على المعرفة والمحبة والطاعات فإنه يفيد عمارة الدنيا والآخرة ، فكانت هذه الحالة أكمل ، فهذا جملة الكلام في هذا الوجه .
القول الثاني في تفسير هذه الآية : ما ذكره
القفال ، وهو أنه تعالى قال في أول السورة : (
أوفوا بالعقود ) [ المائدة : 1 ] فبين أنه كما لا يجوز استحلال المحرم كذلك لا يجوز تحريم المحلل ،
وكانت العرب تحرم من الطيبات ما لم يحرمه الله تعالى ، وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وقد حكى تعالى ذلك في هذه السورة وفي سورة الأنعام ، وكانوا يحللون الميتة والدم وغيرهما ، فأمر الله تعالى أن لا يحرموا ما أحل الله ولا يحللوا ما حرمه الله تعالى حتى يدخلوا تحت قوله : (
ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) .
المسألة الثانية : قوله : (
لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) يحتمل وجوها :
أحدها : لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله تعالى لكم .
وثانيها : لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله الله لكم .
وثالثها : لا تجتنبوا عنها اجتنابا شبيه الاجتناب من المحرمات ، فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل .
ورابعها : لا تحرموا على غيركم بالفتوى .
وخامسها : لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (
ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) [ التحريم : 1 ] .
وسادسها : أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطا لا يمكنه التمييز ، وحينئذ يحرم الكل ، فذلك الخلط سبب لتحريم ما كان حلالا له ، وكذلك القول فيما إذا خلط النجس بالطاهر ، والآية محتملة لكل هذه الوجوه ، ولا يبعد حملها على الكل ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : قوله : (
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) فيه وجوه :
الأول : أنه تعالى جعل
تحريم الطيبات اعتداء وظلما ، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها .
والثاني : أنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى : (
ولا تعتدوا ) ونظيره قوله تعالى : (
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) [ الأعراف : 31 ] .
الثالث : يعني لما أحل لكم الطيبات فاكتفوا بهذه المحللات ولا تتعدوها إلى ما حرم عليكم .