ثم قال تعالى : (
ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) .
والمعنى : أنه تعالى لما علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص الشديد على القتل والغارة ، وعلم أنه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه من منافع المعيشة ، ولأدى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلية ، دبر في ذلك تدبيرا لطيفا ، وهو أنه ألقى في قلوبهم اعتقادا قويا في تعظيم
البيت الحرام وتعظيم مناسكه ، فصار ذلك سببا لحصول الأمن في
البلد الحرام وفي الشهر الحرام ، فلما حصل الأمن في هذا المكان وفي هذا الزمان قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا الزمان وفي هذا المكان ، فاستقامت مصالح معاشهم ، ومن المعلوم أن مثل هذا التدبير لا يمكن إلا إذا كان تعالى في الأزل
[ ص: 85 ] عالما بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات حتى يعلم أن الشر غالب على طباعهم ، وأن ذلك يفضي بهم إلى الفناء وانقطاع النسل ، وأنه لا يمكن دفع ذلك إلا بهذا الطريق اللطيف ، وهو إلقاء تعظيم
الكعبة في قلوبهم حتى يصير ذلك سببا لحصول الأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة ، فحينئذ تستقيم مصالح معاشهم في ذلك المكان وفي ذلك الزمان ، وهذا هو بعينه الدليل الذي تمسك به المتكلمون على كونه تعالى عالما ، فإنهم يقولون: إن أفعاله محكمة متقنة مطابقة للمصالح ، وكل من كان كذلك كان عالما ، ومن المعلوم أن
إلقاء تعظيم الكعبة في قلوب العرب لأجل أن يصير ذلك سببا لحصول الأمن في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة ، ليصير ذلك سبب اقتدارهم على تحصيل مصالح المعيشة ، فعل في غاية الإتقان والإحكام ، فيكون ذلك دليلا قاهرا وبرهانا باهرا على أن صانع العالم سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات ، فلا جرم قال : (
ذلك لتعلموا ) أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فيه ، فتعلموا أنه تدبير لطيف وفعل محكم متقن ، فتعلموا (
أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ) ثم إذا عرفتم ذلك عرفتم أن علمه سبحانه وتعالى صفة قديمة أزلية واجبة الوجود ، وما كان كذلك امتنع أن يكون مخصوصا بالبعض دون البعض ، فوجب كونه متعلقا بجميع المعلومات ، وإذا كان كذلك كان
الله سبحانه عالما بجميع المعلومات ، فلذلك قال : (
وأن الله بكل شيء عليم ) فما أحسن هذا الترتيب في هذا التقدير ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .