(
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) .
قوله تعالى : (
إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ) في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل : (
ماذا أجبتم ) توبيخ من تمرد من أممهم ، وأشد الأمم افتقارا إلى التوبيخ والملامة
النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع
عيسى عليه السلام ; لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء ، وطعن هؤلاء الملاعين تعدى إلى جلال الله وكبريائه ، حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به ، وهو اتخاذ الزوجة والولد ، فلا جرم ذكر الله تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على
عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة ، والمقصود منه
توبيخ النصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم ، فإن كل واحدة من تلك النعم المعددة على
عيسى تدل على أنه عبد وليس بإله . والفائدة في هذه الحكاية تنبيه
النصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم .
المسألة الثانية : موضع (إذ) يجوز أن يكون رفعا بالابتداء على معنى : ذاك إذ قال الله ، ويجوز أن يكون المعنى : اذكر إذ قال الله .
المسألة الثالثة : خرج قوله : (
إذ قال الله ) على لفظ الماضي دون المستقبل وفيه وجوه :
الأول :
الدلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت وكل آت قريب ، ويقال : الجيش قد أتى : إذا قرب إتيانهم ، قال الله تعالى : (
أتى أمر الله ) [النحل : 1] الثاني : أنه ورد على حكاية الحال ونظيره قول الرجل لصاحبه : كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا فيها كذا إذ صاح صائح فتركتني وأجبته ، ونظيره من القرآن قوله تعالى : (
ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت ) [سبأ : 51] (
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ) [الأنفال : 50] (
ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ) [سبأ : 31] والوجه في كل هذه الآيات ما ذكرناه ، من أنه خرج على سبيل الحكاية عن الحال .
المسألة الرابعة : (
ياعيسى ابن مريم ) يجوز أن يكون ( عيسى ) في محل الرفع لأنه منادى مفرد وصف بمضاف ، ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيدا ، وكل ما كان مثل هذا
[ ص: 104 ] جاز فيه وجهان ، نحو يا زيد بن عمرو ، ويا زيد بن عمرو ، وأنشد النحويون :
يا حكم بن المنذر بن الجارود
برفع الأول ونصبه على ما بيناه .
المسألة الخامسة : قوله : (
نعمتي عليك ) أراد الجمع كقوله : (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ( النحل : 18 ) وإنما جاز ذلك لأنه مضاف يصلح للجنس .
واعلم أن الله تعالى فسر نعمته عليه بأمور ، أولها : قوله : (
إذ أيدتك بروح القدس ) وفيه وجهان :
الأول :
روح القدس هو جبريل عليه السلام ، الروح
جبريل والقدس هو الله تعالى ، كأنه أضافه إلى نفسه تعظيما له .
الثاني : أن
الأرواح مختلفة بالماهية ، فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية ، ومنها مشرقة ، ومنها كدرة ، ومنها خيرة ، ومنها نذلة ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011967الأرواح جنود مجندة فالله تعالى خص عيسى بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلوية الخيرة ، ولقائل أن يقول : لما دلت هذه الآية على أن تأييد
عيسى إنما حصل من
جبريل أو بسبب روحه المختص به ، قدح هذا في دلالة المعجزات على صدق الرسل ; لأنا قبل العلم
بعصمة جبريل نجوز أنه أعان
عيسى عليه السلام على ذلك ، على سبيل إغواء الخلق وإضلالهم ; فما لم تعرف عصمة
جبريل لا يندفع هذا ، وما لم تعرف نبوة
عيسى عليه السلام لا تعرف عصمة
جبريل ، فيلزم الدور . وجوابه ما ثبت من أصلنا أن الخالق ليس إلا الله ، وبه يندفع هذا السؤال .
وثانيها : قوله تعالى : (
تكلم الناس في المهد وكهلا ) أما
كلام عيسى في المهد فهو قوله : (
إني عبد الله آتاني الكتاب ) [مريم : 30] وقوله : (
تكلم الناس في المهد وكهلا ) في موضع الحال ، والمعنى : يكلمهم طفلا وكهلا من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين ، وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده .
وثالثها : قوله تعالى : (
وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) .
وفي (الكتاب) قولان ، أحدهما : المراد به الكتابة وهي الخط . والثاني : المراد منه جنس الكتب . فإن الإنسان يتعلم أولا كتبا سهلة مختصرة ، ثم يترقى منها إلى الكتب الشريفة . وأما (
الحكمة ) فهي عبارة عن العلوم النظرية ، والعلوم العملية . ثم ذكر بعده ( التوراة والإنجيل ) وفيه وجهان :
الأول : أنهما خصا بالذكر بعد ذكر الكتب على سبيل التشريف كقوله : (
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) [البقرة : 238] وقوله : (
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) [الأحزاب : 7] .
والثاني وهو الأقوى : أن
الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية لا يحصل إلا لمن صار بانيا في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء . فقوله : ( التوراة والإنجيل ) إشارة إلى
الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .