الفصل الثالث
في تقرير أن
سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد
اعلم أن قوله "
الحمد لله " إشارة إلى إثبات الصانع المختار ، وتقريره : أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك ، ألا ترى أن
إبراهيم عليه السلام قال :
ربي الذي يحيي ويميت ، وقال في موضع آخر :
الذي خلقني فهو يهدين ، وقال
موسى عليه السلام :
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وقال في موضع آخر :
ربكم ورب آبائكم الأولين ، وقال تعالى في أول سورة البقرة : (
ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) [ البقرة : 21 ] وقال في أول ما أنزله على
محمد عليه السلام : (
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ) [ العلق : 1 ] فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى
استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى ، وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيرا جدا .
واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم ، فهذه الحالة من حيث إنها تعرف العبد وجود الإله دليل ، ومن حيث إنها نفع عظيم وصل من الله إلى العبد إنعام ، فلا جرم هو دليل من وجه ، وإنعام من وجه ، والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاما كان يستحق هو الحمد ،
[ ص: 216 ] وحدوث بدن الإنسان أيضا كذلك ، وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والأشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع ، فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقصودات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا ، ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقا للحمد والثناء ، فقوله : (
الحمد لله ) يدل على وجود الصانع ، وعلى علمه وقدرته ورحمته ، وكمال حكمته ، وعلى كونه مستحقا للحمد والثناء والتعظيم ، فكان قوله "
الحمد لله " دالا على جملة هذه المعاني ، وأما قوله : (
رب العالمين ) فهو يدل على أن ذلك الإله واحد ، وأن كل العالمين ملكه وملكه ، وليس في العالم إله سواه ، ولا معبود غيره ، وأما قوله : (
الرحمن الرحيم ) فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ، وأما قوله : (
مالك يوم الدين ) فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء ، ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين ، ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحمانا رحيما ، إذا عرفت هذا ظهر أن قوله : (
الحمد لله ) يدل على وجود الصانع المختار ، وقوله : (
رب العالمين ) يدل على وحدانيته ، وقوله : (
الرحمن الرحيم ) يدل على رحمته في الدنيا والآخرة ، وقوله : (
مالك يوم الدين ) يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة .
وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية ، أما قوله : (
إياك نعبد ) إلى آخر السورة ، فهو إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية ، وهي محصورة في نوعين : الأعمال التي يأتي بها العبد ، والآثار المتفرعة على تلك الأعمال التي يأتي بها العبد ، فلها ركنان :
أحدهما : إتيانه بالعبادة ، وإليه الإشارة بقوله : (
إياك نعبد ) .
والثاني : علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة الله وإليه الإشارة بقوله : (
وإياك نستعين ) وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر ، وأما الآثار المتفرعة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي ، وإليه الإشارة بقوله : (
اهدنا الصراط المستقيم ) ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف :
الطائفة الأولى : الكاملون المحقون المخلصون ، وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به ، وإليهم الإشارة بقوله : (
أنعمت عليهم ) .
والطائفة الثانية : الذين أخلوا بالأعمال الصالحة ، وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله : (
غير المغضوب عليهم ) .
والطائفة الثالثة : الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة ، وهم أهل البدع والكفر ، وإليهم الإشارة بقوله : (
ولا الضالين ) .
إذا عرفت هذا فنقول : استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين :
أحدهما : أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال .
والثاني : أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه .
وقوله : (
اهدنا الصراط المستقيم ) إشارة إلى القسم الأول ، وقوله : (
صراط الذين أنعمت عليهم ) إشارة إلى القسم الثاني ، ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة ، وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة ، وهم المغضوب عليهم ، أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة ، وهم الضالون ، وهذا آخر السورة ، وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية .