ثم قال تعالى : (
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : معنى الآية ظاهر ، وفيه سؤال : وهو أنه كيف جاز
لعيسى عليه السلام أن يقول : (
وإن تغفر لهم )
والله لا يغفر الشرك ؟
والجواب عنه من وجوه :
الأول : أنه تعالى لما قال
لعيسى عليه السلام : (
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) علم أن قوما من
النصارى حكوا هذا الكلام عنه ، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافرا بل يكون مذنبا حيث كذب في هذه الحكاية ،
وغفران الذنب جائز ، فلهذا المعنى
طلب المغفرة من الله تعالى .
والثاني : أنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزهاد والعباد النار ؛ لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه ، فذكر
عيسى هذا الكلام ومقصوده منه
تفويض الأمور كلها إلى الله ، وترك التعرض والاعتراض بالكلية ، ولذلك ختم الكلام بقوله : (
فإنك أنت العزيز الحكيم ) يعني أنت قادر على ما تريد ، حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك ، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية ؟ وقوله : إن الله لا يغفر الشرك ، فنقول : إن غفرانه جائز عندنا وعند جمهور البصريين من
المعتزلة ، قالوا : لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب ، وليس في إسقاطه على الله مضرة ، فوجب أن يكون حسنا ، بل دل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع ، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع
عيسى عليه السلام .
الوجه الثالث في الجواب : أن القوم لما قالوا هذا الكفر
فعيسى عليه السلام جوز أن يكون بعضهم قد تاب عنه ، فقال : (
إن تعذبهم ) علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك ، وأنت قد حكمت على كل من كفر من عبادك بالعقوبة ، (
وإن تغفر لهم ) علمت أنهم تابوا عن الكفر ، وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة .
الوجه الرابع : أنا ذكرنا أن من الناس من قال : إن
قول الله تعالى لعيسى : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة ، وعلى هذا القول فالجواب سهل ؛
[ ص: 114 ] لأن قوله : (
إن تعذبهم فإنهم عبادك ) يعني إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك ، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضا ذاك ، وعلى هذا التقدير فلا إشكال .
المسألة الثانية : احتج بعض الأصحاب بهذه الآية على
شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - في حق الفساق قالوا : لأن قول
عيسى عليه السلام : (
إن تعذبهم فإنهم عبادك ) ليس في حق أهل الثواب لأن التعذيب لا يليق بهم ، وليس أيضا في حق الكفار لأن قوله : (
وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) لا يليق بهم فدل على أن ذلك ليس إلا في حق الفساق من أهل الإيمان ، وإذا ثبت
شفاعة الفساق في حق عيسى عليه السلام ثبت في حق
محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى ؛ لأنه لا قائل بالفصل .
المسألة الثالثة : روى
الواحدي رحمه الله أن في مصحف
عبد الله ( وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ) سمعت شيخي ووالدي رحمه الله يقول : (
العزيز الحكيم ) هاهنا أولى من الغفور الرحيم ؛ لأن كونه غفورا رحيما يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة لكل محتاج ، وأما العزة والحكمة فهما لا يوجبان المغفرة ، فإن كونه عزيزا يقتضي أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأنه لا اعتراض عليه لأحد ، فإذا كان عزيزا متعاليا عن جميع جهات الاستحقاق ، ثم حكم بالمغفرة كان الكرم هاهنا أتم مما إذا كان كونه غفورا رحيما يوجب المغفرة والرحمة ، فكانت عبارته رحمه الله أن يقول : عز عن الكل ، ثم حكم بالرحمة فكان هذا أكمل . وقال قوم آخرون : إنه لو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم ، أشعر ذلك بكونه شفيعا لهم ، فلما قال : (
فإنك أنت العزيز الحكيم ) دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى ، وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه .