(
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم )
قوله تعالى : (
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم )
فيه مسائل :
المسألة الأولى : في وجه النظم قولان :
الأول : أنه تعالى بين من حال الكفار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كأن قلوبهم قد صارت ميتة عن قبول الإيمان بقوله : (
إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ) فذكر هذه الآية تقريرا لذلك المعنى الثاني أنه تعالى لما ذكر في قوله : (
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) في كونها دالة على كونها تحت تدبير مدبر قديم وتحت تقدير مقدر حكيم ، وفي أن عناية الله محيطة بهم ، ورحمته واصلة إليهم ، قال بعده والمكذبون لهذه الدلائل والمنكرون لهذه العجائب صم لا يسمعون كلاما البتة ، بكم لا ينطقون بالحق ، خائضون في ظلمات الكفر ، غافلون عن تأمل هذه الدلائل .
[ ص: 182 ] المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن
الهدى والضلال ليس إلا من الله تعالى . وتقريره أنه تعالى وصفهم بكونهم صما وبكما وبكونهم في الظلمات وهو إشارة إلى كونهم عميا فهو بعينه نظير قوله في سورة البقرة (
صم بكم عمي ) [ البقرة : 18 ] .
ثم قال تعالى : (
من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى . قالت
المعتزلة : الجواب عن هذا من وجوه :
الوجه الأول : قال
الجبائي معناه أنه تعالى يجعلهم صما وبكما يوم القيامة عند الحشر . ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صما وبكما في الظلمات ، ويضلهم بذلك عن الجنة وعن طريقها ويصيرهم إلى النار ، وأكد القاضي هذا القول بأنه تعالى بين في سائر الآيات أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم .
والوجه الثاني : قال
الجبائي أيضا ويحتمل أنهم كذلك في الدنيا ، فيكون توسعا من حيث جعلوا بتكذيبهم بآيات الله تعالى في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدين ، كالصم والبكم الذين لا يهتدون إلى منافع الدنيا . فشبههم من هذا الوجه بهم ، وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التشبيه .
والوجه الثالث : قال
الكعبي قوله : (
صم وبكم ) محمول على الشتم والإهانة ، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة . وأما قوله تعالى : (
من يشأ الله يضلله ) فقال
الكعبي : ليس هذا على سبيل المجاز ؛ لأنه تعالى وإن أجمل القول فيه ههنا ، فقد فصله في سائر الآيات وهو قوله : (
ويضل الله الظالمين ) [ إبراهيم : 27 ] وقوله : (
وما يضل به إلا الفاسقين ) [ البقرة : 26 ] وقوله : (
والذين اهتدوا زادهم هدى ) [ محمد : 17 ] وقوله : (
يهدي به الله من اتبع رضوانه ) [ المائدة : 16 ] وقوله : (
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) [ إبراهيم : 27 ] وقوله : (
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم ) [ العنكبوت : 69 ] فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال وإن كانت مجملة في هذه الآية ، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات ، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات ، ثم إن
المعتزلة ذكروا تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل من وجوه :
الأول : أن المراد من قوله : (
الظلمات من يشأ الله يضلله ) محمول على منع الألطاف فصاروا عندها كالصم والبكم .
والثاني : (
من يشأ الله يضلله ) يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب ومن يشأ أن يهديه إلى الجنة يجعله على صراط مستقيم ، وهو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة .
وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الإضلال إلا لمن يستحق عقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين .
واعلم أن هذه الوجوه التي تكلفها هؤلاء الأقوام إنما يحسن المصير إليها لو ثبت في العقل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره . وأما لما ثبت بالدليل العقلي القاطع أنه لا يمكن حمل هذا الكلام إلا على ظاهره كان العدول إلى هذه الوجوه المتكلفة بعيدا جدا ، وقد دللنا على أن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعي ، وبينا أن خالق ذلك الداعي هو الله ، وبينا أن عند حصوله يجب الفعل ، فهذه المقدمات الثلاثة توجب القطع بأن الكفر والإيمان من الله ، وبتخليقه وتقديره وتكوينه ، ومتى ثبت بهذا البرهان القاطع صحة هذا الظاهر ، كان الذهاب إلى هذه التكلفات فاسدا قطعا ، وأيضا فقد تتبعنا هذه الوجوه بالإبطال والنقض في
[ ص: 183 ] تفسير قوله : (
ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ] وفي سائر الآيات ، فلا حاجة إلى الإعادة ، وأقربها أن هذا الإضلال والهداية معلقان بالمشيئة ، وعلى ما قالوه : فهو أمر واجب على الله تعالى يجب عليه أن يفعله شاء أم أبى والله أعلم .
المسألة الثالثة : قوله : (
والذين كفروا بآياتنا ) اختلفوا في المراد بتلك الآيات ، فمنهم من قال : القرآن
ومحمد ، ومنهم من قال : يتناول جميع الدلائل والحجج ، وهذا هو الأصح . والله أعلم .