المسألة الثانية : احتج الطاعنون في
عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه :
الأول : أنه عليه السلام طردهم والله تعالى نهاه عن ذلك الطرد ، فكان ذلك الطرد ذنبا .
والثاني : أنه تعالى قال : (
فتطردهم فتكون من الظالمين ) وقد ثبت أنه طردهم ، فيلزم أن يقال : إنه كان من الظالمين .
والثالث : أنه تعالى حكى عن
نوح عليه السلام أنه قال : (
وما أنا بطارد الذين آمنوا ) [ هود : 29 ] ثم
إنه تعالى أمر محمدا عليه السلام بمتابعة الأنبياء عليهم السلام في جميع الأعمال الحسنة ، حيث قال : (
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] فبهذا الطريق وجب على
محمد عليه السلام أن لا يطردهم ، فلما طردهم كان ذلك ذنبا .
والرابع : أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة الكهف ، فزاد فيها فقال : (
تريد زينة الحياة الدنيا ) [ الكهف : 28 ] ثم إنه تعالى نهاه عن
الالتفات إلى زينة الحياة الدنيا في آية أخرى فقال : (
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا ) [ طه : 131 ] فلما نهي عن الالتفات إلى زينة الدنيا ، ثم ذكر في تلك الآية أنه يريد زينة الحياة الدنيا كان ذلك ذنبا .
الخامس : نقل أن أولئك الفقراء كلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
[ ص: 194 ] هذه الواقعة فكان عليه السلام يقول :
مرحبا بمن عاتبني ربي فيهم أو لفظ هذا معناه ، وذلك يدل أيضا على الذنب .
والجواب عن الأول : أنه عليه السلام ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم ، وإنما عين لجلوسهم وقتا معينا سوى الوقت الذي كان يحضر فيه أكابر
قريش ، فكان غرضه منه التلطف في إدخالهم في الإسلام ، ولعله عليه السلام كان يقول هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يفوتهم بسبب هذه المعاملة أمر مهم في الدنيا وفي الدين ، وهؤلاء الكفار فإنه يفوتهم الدين والإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى . فأقصى ما يقال إن هذا الاجتهاد وقع خطأ إلا أن
الخطأ في الاجتهاد مغفور . وأما قوله ثانيا : إن طردهم يوجب كونه عليه السلام من الظالمين .
فجوابه : أن
الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، والمعنى أن أولئك الضعفاء الفقراء كانوا يستحقون التعظيم من الرسول عليه السلام فإذا طردهم عن ذلك المجلس كان ذلك ظلما ، إلا أنه من باب ترك الأولى والأفضل لا من باب ترك الواجبات ، وكذا الجواب عن سائر الوجوه فإنا نحمل كل هذه الوجوه على ترك الأفضل والأكمل والأولى والأحرى ، والله أعلم .