المسألة الخامسة : المجسمة تمسكوا في
إثبات الأعضاء لله تعالى بقوله : (
يريدون وجهه ) وسائر الآيات المناسبة له مثل قوله : (
ويبقى وجه ربك ) [ الرحمن : 27 ] .
وجوابه أن قوله : (
قل هو الله أحد ) يقتضي الوحدانية التامة ، وذلك ينافي التركيب من الأعضاء
[ ص: 195 ] والأجزاء ، فثبت أنه لا بد من التأويل ، وهو من وجهين :
الأول : قوله : (
يريدون وجهه ) المعنى يريدونه إلا أنهم يذكرون لفظ الوجه للتعظيم ، كما يقال هذا وجه الرأي وهذا وجه الدليل .
والثاني : أن من أحب ذاتا أحب أن يرى وجهه ، فرؤية الوجه من لوازم المحبة ، فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا ، وتمام هذا الكلام تقدم في قوله : (
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ البقرة : 115 ] .
ثم قال تعالى : (
ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ) اختلفوا في أن الضمير في قوله : " حسابهم " وفي قوله : " عليهم " إلى ماذا يعود ؟
والقول الأول : أنه عائد إلى المشركين ، والمعنى
ما عليك من حساب المشركين من شيء ولا حسابك على المشركين وإنما الله هو الذي يدبر عبيده كما يشاء وأراد . والغرض من هذا الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل هذا الاقتراح من هؤلاء الكفار ، فلعلهم يدخلون في الإسلام ويتخلصون من عقاب الكفر ، فقال تعالى : لا تكن في قيد أنهم يتقون الكفر أم لا فإن الله تعالى هو الهادي والمدبر .
القول الثاني : أن الضمير عائد إلى الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ، وهم الفقراء ، وذلك أشبه بالظاهر . والدليل عليه أن الكناية في قوله : (
فتطردهم فتكون من الظالمين ) عائدة لا محالة إلى هؤلاء الفقراء ، فوجب أن يكون سائر الكنايات عائدة إليهم ، وعلى هذا التقدير فذكروا في قوله : (
ما عليك من حسابهم من شيء ) قولين :
أحدهما : أن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء ، وقالوا : يا
محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولا وملبوسا عندك ، وإلا فهم فارغون عن دينك ، فقال الله تعالى إن كان الأمر كما يقولون ، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله ، فحسابهم عليه لازم لهم ، لا يتعدى إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم ، كقوله : (
ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [ الأنعام : 164 ] .
فإن قيل : أما كفى قوله : (
ما عليك من حسابهم من شيء ) حتى ضم إليه قوله : (
وما من حسابك عليهم من شيء )
قلنا : جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما معنى واحد وهو المعنى في قوله : (
ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا ، كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه .
القول الثاني : ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم ، ولا حساب رزقك عليهم ، وإنما الرازق لهم ولك هو الله تعالى ، فدعهم يكونوا عندك ولا تطردهم .
واعلم أن هذه القصة شبيهة بقصة
نوح عليه السلام إذ قال له قومه : (
أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) [ الشعراء : 111 ] فأجابهم
نوح عليه السلام و(
قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ) وعنوا بقولهم : " الأرذلون " الحاكة والمحترفين بالحرف الخسيسة ، فكذلك ههنا . وقوله : (
فتطردهم ) جواب النفي ومعناه ، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم ، بمعنى أنه لم يكن عليك حسابهم حتى أنك لأجل ذلك الحساب تطردهم ، وقوله : (
فتكون من الظالمين ) يجوز أن يكون عطفا على
[ ص: 196 ] قوله : (
فتطردهم ) على وجه التسبب لأن كونه ظالما معلول طردهم ومسبب له . وأما قوله : (
فتكون من الظالمين ) ففيه قولان :
الأول : (
فتكون من الظالمين ) لنفسك بهذا الطرد .
الثاني : أن تكون من الظالمين لهم لأنهم لما استوجبوا مزيد التقريب والترحيب كان طردهم ظلما لهم ، والله أعلم .