ثم قال تعالى : (
أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا لا يتناول التوبة من الكفر ؛ لأن هذا الكلام خطاب مع الذين وصفهم بقوله : (
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ) فثبت أن المراد منه توبة المسلم عن المعصية ، والمراد من قوله : (
بجهالة ) ليس هو الخطأ والغلط ؛ لأن ذلك لا حاجة به إلى التوبة ، بل المراد منه ، أن تقدم على المعصية بسبب الشهوة ، فكان المراد منه بيان أن
المسلم إذا أقدم على الذنب مع العلم بكونه ذنبا ثم تاب منه توبة حقيقية فإن الله تعالى يقبل توبته .
المسألة الثانية : قرأ
نافع ( أنه من عمل منكم ) بفتح الألف ( فإنه غفور ) بكسر الألف ، وقرأ
عاصم وابن عامر بالفتح فيهما ، والباقون بالكسر فيهما . أما فتح الأولى فعلى التفسير للرحمة ، كأنه قيل : كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم . وأما فتح الثانية فعلى أن يجعله بدلا من الأولى كقوله : (
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ) [ المؤمنون : 85 ] وقوله : (
كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ) [ الحج : 4 ] وقوله : (
ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم ) [ التوبة : 63 ] .
قال
أبو علي الفارسي : من فتح الأولى فقد جعلها بدلا من الرحمة ، وأما التي بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبرا تقديره : فله أنه غفور رحيم ، أي فله غفرانه ، أو أضمر مبتدأ يكون "أن" خبره كأنه قيل : فأمره أنه غفور رحيم .
وأما من كسرهما جميعا فلأنه لما قال : (
كتب ربكم على نفسه الرحمة ) فقد تم هذا الكلام ، ثم ابتدأ وقال : (
أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ) فدخلت الفاء جوابا للجزاء ، وكسرت إن لأنها دخلت على مبتدأ وخبر كأنك قلت فهو غفور رحيم . إلا أن الكلام بأن أوكد هذا قول
الزجاج . وقرأ
نافع الأولى بالفتح والثانية بالكسر ؛ لأنه أبدل الأولى من الرحمة ، واستأنف ما بعد الفاء . والله أعلم .
المسألة الثالثة : قوله : (
من عمل منكم سوءا بجهالة ) قال
الحسن :
كل من عمل معصية فهو جاهل ، ثم اختلفوا فقيل : إنه جاهل بمقدار ما فاته من الثواب وما استحقه من العقاب ، وقيل : إنه وإن علم أن عاقبة ذلك الفعل مذمومة ، إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل ، ومن آثر القليل على الكثير قيل في العرف إنه جاهل .
[ ص: 6 ] وحاصل الكلام أنه وإن لم يكن جاهلا إلا أنه لما فعل ما يليق بالجهال أطلق عليه لفظ الجاهل ، وقيل : نزلت هذه الآية في
عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما اقترحوه ، ولم يعلم بأنها مفسدة ونظير هذه الآية قوله : (
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ) [ النساء : 17 ] .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : (
ثم تاب من بعده وأصلح ) فقوله : ( تاب ) إشارة إلى الندم على الماضي ، وقوله : ( وأصلح ) إشارة إلى كونه آتيا بالأعمال الصالحة في الزمان المستقبل . ثم قال : (
فأنه غفور رحيم ) فهو غفور بسبب إزالة العقاب ، رحيم بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة . والله أعلم .