المسألة السادسة :
أن إبراهيم - عليه السلام - استدل بأفول الكوكب على أنه لا يجوز أن يكون ربا له وخالقا له . ويجب علينا ههنا أن نبحث عن أمرين :
أحدهما : أن الأفول ما هو ؟
والثاني : أن الأفول كيف يدل على عدم ربوبية الكوكب ؟ فنقول : الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره .
وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل ، فيقول : الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة ، وعلى هذا التقدير فيكون الطلوع أيضا دليلا على الحدوث ، فلم ترك
إبراهيم - عليه السلام - الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول في إثبات هذا المطلوب على الأفول ؟
والجواب : لا شك أن الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن
الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهرا جليا بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل . ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق . أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد ، فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم . وأيضا قال بعض المحققين : الهوى في خطرة الإمكان أفول ، وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام ، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان ، وكل ممكن محتاج ، والمحتاج لا يكون مقطوع الحاجة ، فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال : (
وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة ، فكل متحرك محدث ، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر ؛ فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل . وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ، ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية ، فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله : (
لا أحب الآفلين ) كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين .
وفيه دقيقة أخرى : وهو أنه - عليه السلام - إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين . ومذهب أهل النجوم أن
[ ص: 44 ] الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير . أما إذا كان غربيا وقريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة . فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان ، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي ، يكون ضعيف القوة ، ناقص التأثير ، عاجزا عن التدبير ، وذلك يدل على القدح في إلهيته ، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته ، والله أعلم .
أما المقام الثاني : وهو بيان أن
كون الكوكب آفلا يمنع من ربوبيته . فلقائل أيضا أن يقول : أقصى ما في الباب أن يكون أفوله دالا على حدوثه إلا أن حدوثه لا يمنع من كونه ربا
لإبراهيم ومعبودا له ، ألا ترى أن المنجمين وأصحاب الوسايط يقولون : إن الإله الأكبر خلق الكواكب وأبدعها وأحدثها ، ثم أن هذه الكواكب تخلق النبات والحيوان في هذا العالم الأسفل ، فثبت أن أفول الكواكب وإن دل على حدوثها إلا أنه لا يمنع من كونها أربابا للإنسان وآلهة لهذا العالم . والجواب : لنا ههنا مقامان :
المقام الأول : أن يكون المراد من الرب والإله الموجود الذي عنده تنقطع الحاجات ، ومتى ثبت بأفول الكواكب حدوثها ، وثبت في بداهة العقول أن كل ما كان محدثا فإنه يكون في وجوده محتاجا إلى الغير . وجب القطع باحتياج هذه الكواكب في وجودها إلى غيرها ، ومتى ثبت هذا المعنى امتنع كونها أربابا وآلهة ، بمعنى أنه تنقطع الحاجات عند وجودها ، فثبت أن كونها آفلة يوجب القدح في كونها أربابا وآلهة بهذا التفسير .
المقام الثاني : أن يكون المراد من الرب والإله من يكون خالقا لنا وموجدا لذواتنا وصفاتنا . فنقول : أفول الكواكب يدل على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد وعلى أنه لا يجوز عبادتها وبيانه من وجوه :
الأول : أن أفولها يدل على حدوثها . وحدوثها يدل على افتقارها إلى فاعل قديم قادر ، ويجب أن تكون قادرية ذلك القادر أزلية ، وإلا لافتقرت قادريته إلى قادر آخر ، ولزم التسلسل وهو محال ، فثبت أن قادريته أزلية .
وإذا ثبت هذا فنقول : الشيء الذي هو مقدور له إنما صح كونه مقدورا له باعتبار إمكانه ، والإمكان واحد في كل الممكنات . فثبت أن ما لأجله صار بعض الممكنات مقدورا لله تعالى فهو حاصل في كل الممكنات ، فوجب في كل الممكنات أن تكون مقدورة لله تعالى .
وإذا ثبت هذا امتنع وقوع شيء من الممكنات بغيره على ما بينا صحة هذه المقامات بالدلائل اليقينية في علم الأصول .
فالحاصل أنه ثبت بالدليل أن كون الكواكب آفلة يدل على كونها محدثة ، وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة ، وأيضا فكونها في نفسها محدثة يوجب القول بامتناع كونها قادرة على الإيجاد والإبداع ، وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة . ودلائل القرآن إنما يذكر فيها أصول المقدمات ، فأما التفريع والتفصيل ، فذاك إنما يليق بعلم الجدل . فلما ذكر الله تعالى هاتين المقدمتين على سبيل الرمز لا جرم اكتفى بذكرهما في بيان أن الكواكب لا قدرة لها على الإيجاد والإبداع ، فلهذا السبب استدل
إبراهيم - عليه السلام - بأفولها على امتناع كونها أربابا وآلهة لحوادث هذا العالم .
[ ص: 45 ] الوجه الثاني : أن أفول الكواكب يدل على حدوثها ، وحدوثها يدل على افتقارها في وجودها إلى القادر المختار ، فيكون ذلك الفاعل هو الخالق للأفلاك والكواكب ، ومن كان قادرا على خلق الكواكب والأفلاك من دون واسطة أي شيء كان فبأن يكون قادرا على خلق الإنسان أولى ؛ لأن
القادر على خلق الشيء الأعظم لا بد وأن يكون قادرا على خلق الشيء الأضعف ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) [ غافر : 57 ] وبقوله : (
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ) [ يس : 81] فثبت بهذا الطريق أن الإله الأكبر يجب أن يكون قادرا على خلق البشر ، وعلى تدبير العالم الأسفل بدون واسطة الأجرام الفلكية ، وإذا كان الأمر كذلك كان الاشتغال بعبادة الإله الأكبر أولى من الاشتغال بعبادة الشمس والنجوم والقمر .
الوجه الثالث : أنه لو صح كون بعض الكواكب موجدة وخالقة ، لبقي هذا الاحتمال في الكل وحينئذ لا يعرف الإنسان أن خالقه هذا الكوكب . أو ذلك الآخر أو مجموع الكواكب فيبقى شاكا في معرفة خالقه . أما لو عرفنا الكل وأسندنا الخلق والإيجاد والتدبير إلى خالق الكل فحينئذ يمكننا معرفة الخالق والموجد ، ويمكننا الاشتغال بعبادته وشكره ، فثبت بهذه الوجوه أن أفول الكواكب كما يدل على امتناع كونها قديمة فكذلك يدل على امتناع كونها آلهة لهذا العالم وأربابا للحيوان والإنسان . والله أعلم . فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل .
فإن قيل : لا شك أن تلك الليلة كانت مسبوقة بنهار وليل ، وكان أفول الكواكب والقمر والشمس حاصلا في الليل السابق والنهار السابق ، وبهذا التقرير لا يبقى للأفول الحاصل في تلك الليلة مزيد فائدة .
والجواب : أنا بينا أنه - صلوات الله عليه - إنما أورد هذا الدليل على الأقوام الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد . فلا يبعد أن يقال : إنه - عليه السلام - كان جالسا مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي وزجرهم عن عبادة الكواكب ، فبينما هو في تقرير ذلك الكلام إذ وقع بصره على كوكب مضيء ، فلما أفل قال
إبراهيم - عليه السلام - : لو كان هذا الكوكب إلها لما انتقل من الصعود إلى الأفول ومن القوة إلى الضعف . ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل . فأعاد عليهم ذلك الكلام ، وكذا القول في الشمس ، فهذا جملة ما يحضرنا في تقرير دليل
إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه .
المسألة السادسة : تفلسف
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في بعض كتبه وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب ، والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك ، والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=13251أبو علي بن سيناء يفسر الأفول بالإمكان ، فزعم
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها ، وزعم أن المراد من قوله : (
لا أحب الآفلين ) أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها ، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ، ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود .
واعلم أن هذا الكلام لا بأس به . إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه ، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم ، والشمس على العقل ، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية ، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها . والله أعلم .