(
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم )
قوله تعالى : (
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم )
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى قوله : ( وتلك ) إشارة إلى كلام تقدم ، وفيه وجوه :
الأول : أنه إشارة إلى قوله : (
لا أحب )
[ ص: 51 ] (
الآفلين ) .
والثاني : أنه إشارة إلى أن القوم قالوا له : أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لأجل أنك شتمتهم . فقال لهم : أفلا تخافون أنتم حيث أقدمتم على الشرك بالله وسويتم في العبادة بين خالق العالم ومدبره وبين الخشب المنحوت والصنم المعمول ؟
والثالث : أن المراد هو الكل .
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( وتلك ) مبتدأ وقوله : (
حجتنا ) خبره وقوله : (
آتيناها إبراهيم ) صفة لذلك الخبر .
المسألة الثانية : قوله : (
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم ) يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل
إبراهيم - عليه السلام - بإيتاء الله وبإظهاره تلك الحجة في عقله ، وذلك يدل على أن
الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى . ويتأكد هذا أيضا بقوله : (
نرفع درجات من نشاء ) فإن المراد أنه تعالى
رفع درجات إبراهيم بسبب أنه تعالى آتاه تلك الحجة ، ولو كان حصول العلم بتلك الحجة إنما كان من قبل
إبراهيم لا من قبل الله تعالى لكان
إبراهيم - عليه السلام - هو الذي رفع درجات نفسه وحينئذ كان قوله : (
نرفع درجات من نشاء ) باطلا . فثبت أن هذا صريح قولنا في مسألة الهدى والضلال .
المسألة الثالثة : هذه الآية من أدل الدلائل على
فساد قول الحشوية في الطعن في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل ؛ لأنه تعالى أثبت
لإبراهيم - عليه السلام - حصول الرفعة والفوز بالدرجات العالية ، لأجل أنه ذكر الحجة في التوحيد وقررها وذب عنها ، وذلك يدل على أنه لا مرتبة بعد النبوة والرسالة أعلى وأشرف من هذه المرتبة .
المسألة الرابعة : قرأ
عاصم وحمزة والكسائي " درجات " بالتنوين من غير إضافة والباقون بالإضافة ، فالقراءة الأولى معناها : نرفع من نشاء درجات كثيرة ، فيكون " من " في موضع النصب . قال
ابن مقسم : هذه القراءة أدل على تفضيل بعضهم على بعض في المنزلة والرفعة . وقال
أبو عمرو : الإضافة تدل على الدرجة الواحدة وعلى الدرجات الكثيرة والتنوين لا يدل إلا على الدرجات الكثيرة .
المسألة الخامسة : اختلفوا في تلك الدرجات . قيل : درجات أعماله في الآخرة ، وقيل : تلك الحجج درجات رفيعة ؛ لأنها توجب الثواب العظيم . وقيل : نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة ، وفي الآخرة بالجنة والثواب . وقيل : نرفع درجات من نشاء بالعلم . واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن
كمال السعادة في الصفات الروحانية وفي البعد عن الصفات الجسمانية .
والدليل عليه أنه تعالى قال : (
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) .
ثم قال بعده : (
نرفع درجات من نشاء ) وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة ، وهذا يقتضي أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة وإطلاعها على إشراقها اقتضت ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعالي العالم الروحاني ، وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات . والله أعلم .
وأما معنى (
حكيم عليم ) فالمعنى أنه إنما يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم ، لا بموجب الشهوة والمجازفة ، فإن
أفعال الله منزهة عن العبث والفساد والباطل .