المسألة الخامسة : في هذه الآية أحكام .
الحكم الأول
أن
النكرة في موضع النفي تفيد العموم ، والدليل عليه هذه الآية فإن قوله : (
ما أنزل الله على بشر من شيء ) نكرة في موضع النفي ، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تعالى : (
قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) إبطالا له ، ونقضا عليه ، ولو لم يكن كذلك لفسد هذا الاستدلال ، ولما كان ذلك باطلا ، ثبت أن النكرة في موضع النفي تعم . والله أعلم .
الحكم الثاني
النقض يقدح في صحة الكلام ، وذلك لأنه تعالى نقض قولهم : (
ما أنزل الله على بشر من شيء ) بقوله : (
قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) فلو لم يدل النقض على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب .
واعلم أن قول من يقول : إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقص مبطلا ضعيف ؛ إذ لو كان الأمر كذلك لسقطت حجة الله في هذه الآية ؛ لأن اليهودي كان يقول : معجزات
موسى أظهر وأبهر من معجزاتك ، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هنا ، ولو كان الفرق مقبولا لسقطت هذه الحجة ، وحيث لا يجوز القول بسقوطها علمنا أن النقض على الإطلاق مبطل . والله أعلم .
[ ص: 64 ] الحكم الثالث
تفلسف
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي فزعم أن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية ، وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن
موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا ، وأحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئا . ينتج من الشكل الثاني أن
موسى ما كان من البشر ، وهذا خلف محال ، وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ، ولا بحسب صحة المقدمة الأولى ، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية ، وهي قولهم : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فوجب القول بكونها كاذبة ، فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب ، إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية ، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف . والله أعلم .
واعلم أنه تعالى لما قال : (
قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) وصف بعده كتاب
موسى بالصفات .
فالصفة الأولى : كونه نورا وهدى للناس .
واعلم أنه تعالى سماه نورا تشبيها له بالنور الذي به يبين الطريق .
فإن قالوا : فعلى هذا التفسير لا يبقى بين كونه نورا وبين كونه هدى للناس فرق ، وعطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير .
قلنا : النور له صفتان :
إحداهما : كونه في نفسه ظاهرا جليا .
والثانية : كونه بحيث يكون سببا لظهور غيره .
فالمراد من كونه نورا وهدى هذان الأمران .
واعلم أنه تعالى وصف القرآن أيضا بهذين الوصفين في آية أخرى ، فقال : (
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) [الشورى : 52] .
الصفة الثانية : قوله : (
تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
أبو عمرو وابن كثير "يجعلونه" على لفظ الغيبة ، وكذلك يبدونها ويخفون لأجل أنهم غائبون ، ويدل عليه قوله تعالى : (
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) فلما وردت هذه الألفاظ على لفظ المغايبة ، فكذلك القول في البواقي ، ومن قرأ بالتاء على الخطاب ، فالتقدير : قل لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ، والدليل عليه قوله تعالى : (
وعلمتم ما لم تعلموا ) فجاء على الخطاب ، فكذلك ما قبله .
المسألة الثانية : قال
أبو علي الفارسي : قوله : "يجعلونه قراطيس" أي يجعلونه ذات قراطيس . أي يودعونه إياها .
فإن قيل : إن كل كتاب فلا بد وأن يودع في القراطيس ، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب ، فما السبب في أن حكى الله تعالى هذا المعنى في معرض الذم لهم .
قلنا : الذم لم يقع على هذا المعنى فقط ، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس ، وفرقوه وبعضوه ، لا جرم قدروا على إبداء البعض ، وإخفاء البعض ، وهو الذي فيه صفة
محمد عليه الصلاة والسلام .
[ ص: 65 ] فإن قيل : كيف يقدرون على ذلك مع أن التوراة كتاب وصل إلى أهل المشرق والمغرب ، وعرفه أكثر أهل العلم وحفظوه ، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه ، والدليل عليه أن
الرجل في هذا الزمان لو أراد إدخال الزيادة والنقصان في القرآن لم يقدر عليه ، فكذا القول في التوراة .
قلنا : قد ذكرنا في سورة البقرة أن المراد من التحريف تفسير آيات التوراة بالوجوه الباطلة الفاسدة كما يفعله المبطلون في زماننا ، هذا بآيات القرآن .
فإن قيل : هب أنه حصل في التوراة آيات دالة على نبوة
محمد عليه الصلاة والسلام ، إلا أنها قليلة ، والقوم ما كانوا يخفون من التوراة إلا تلك الآيات ، فلم قال : ويخفون كثيرا ؟
قلنا : القوم كما يخفون الآيات الدالة على نبوة
محمد عليه الصلاة والسلام ، فكذلك يخفون الآيات المشتملة على الأحكام ، ألا ترى أنهم حاولوا على إخفاء الآية المشتملة على رجم الزاني المحصن .
الصفة الثالثة : قوله : (
وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ) والمراد أن
التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد ،
واليهود قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقرءون تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها ، فلما بعث الله
محمدا ، ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو المراد من قوله : (
وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ) .
واعلم أنه تعالى لما وصف التوراة بهذه الصفات الثلاث ، قال : ( قل الله ) والمعنى أنه تعالى قال في أول الآية : (
قل من أنزل الكتاب ) الذي صفته كذا وكذا فقال بعده : ( قل الله ) والمعنى أن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف بالصفات المذكورة المؤيد قول صاحبه بالمعجزات القاهرة الباهرة مثل معجزات
موسى عليه السلام لا يكون إلا من الله تعالى ، فلما صار هذا المعنى ظاهرا بسبب ظهور الحجة القاطعة ، لا جرم قال تعالى
لمحمد : قل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى ، ونظيره قوله : (
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) [ الأنعام : 19 ] وأيضا إن الرجل الذي حاول
إقامة الدلالة على وجود الصانع يقول : من الذي أحدث الحياة بعد عدمها ، ومن الذي أحدث العقل بعد الجهالة ، ومن الذي أودع في الحدقة القوة الباصرة ، وفي الصماخ القوة السامعة ، ثم إن ذلك القائل نفسه يقول : ( الله ) والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة والبينة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها ، فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالمقصود حاصل فكذا هاهنا .
ثم قال تعالى بعده : (
ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم ، وبلغت في الأعذار والأنذار هذا المبلغ العظيم ، فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء البتة ، ونظيره قوله تعالى : (
إن عليك إلا البلاغ ) .
المسألة الثانية : قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية السيف ، وهذا بعيد ؛ لأن قوله : (
ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) مذكور لأجل التهديد ، وذلك لا ينافي حصول المقاتلة ، فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوب المقاتلة ، رافعا لشيء من مدلولات هذه الآية ، فلم يحصل النسخ فيه . والله أعلم .