صفحة جزء
ثم قال : ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) وفيه مباحث :

البحث الأول : أقول : إنه تعالى حكى عن قوم أنهم أثبتوا إبليس شريكا لله تعالى ، ثم بعد ذلك حكى عن أقوام آخرين أنهم أثبتوا لله بنين وبنات ، أما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود ، وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون : الملائكة بنات الله ، وقوله : ( بغير علم ) كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في فساد هذا القول ، وفيه وجوه :

الحجة الأولى : أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته ، فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو لا يكون ، فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلا بنفسه ، قائما بذاته ، لا تعلق له في وجوده بالآخر ، ومن كان كذلك لم يكن والد له البتة ؛ لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة ، وأما إن كان ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته ، ومن كان كذلك فيكون عبدا له ولا ولدا له ، فثبت أن من عرف أن الإله ما هو ، امتنع منه أن يثبت له البنات والبنين .

الحجة الثانية : أن الولد يحتاج إليه أن يقوم مقامه بعد فنائه ، وهذا إنما يعقل في حق من يفنى ، أما من تقدس عن ذلك لم يعقل الولد في حقه .

الحجة الثالثة : أن الولد مشعر بكونه متولدا عن جزء من أجزاء الوالد ، وذلك إنما يعقل في حق من [ ص: 96 ] يكون مركبا ، ويمكن انفصال بعض أجزائه عنه ، وذلك في حق الواحد الفرد الواجب لذاته محال ، فحاصل الكلام أن من علم أن الإله ما حقيقته استحال أن يقول له ولد فكان قوله : ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) إشارة إلى هذه الدقيقة .

البحث الثاني : قرأ نافع " وخرقوا " مشددة الراء . والباقون " خرقوا " خفيفة الراء . قال الواحدي : الاختيار التخفيف ؛ لأنها أكثر والتشديد للمبالغة والتكثير .

البحث الثالث : قال الفراء : معنى " خرقوا " افتعلوا وافتروا ، قال : وخرقوا واخترقوا ، وخلقوا واختلقوا ، وافتروا واحد . وقال الليث : يقال : تخرق الكذب وتخلقه ، وحكى صاحب " الكشاف " : أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة فقال : كلمة عربية كانت تقولها ، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها ، والله أعلم ، ثم قال : ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه ، أي شقوا له بنين وبنات .

ثم إنه تعالى ختم الآية فقال : ( سبحانه وتعالى عما يصفون ) ؛ فقوله : ( سبحانه ) تنزيه لله عن كل ما لا يليق به ، وأما قوله : ( وتعالى ) فلا شك أنه لا يفيد العلو في المكان ؛ لأن المقصود هاهنا تنزيه الله تعالى عن هذه الأقوال الفاسدة ، والعلو في المكان لا يفيد هذا المعنى ، فثبت أن المراد هاهنا التعالي عن كل اعتقاد باطل ، وقول فاسد .

فإن قالوا : فعلى هذا التقدير لا يبقى بين قوله : " سبحانه " وبين قوله : " وتعالى " فرق .

قلنا : بل يبقى بينهما فرق ظاهر ، فإن المراد بقوله سبحانه أن هذا القائل يسبحه وينزهه عما لا يليق به ، والمراد بقوله : ( وتعالى ) كونه في ذاته متعاليا متقدسا عن هذه الصفات سواء سبحه مسبح أو لم يسبحه ، فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبحين ، والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له لذاته لا لغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية