أما قوله تعالى : (
ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد من الآية أنه تعالى لو أظهر جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار ، فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم . قال أصحابنا : فلما لم يؤمنوا دل ذلك الدليل على أنه تعالى ما شاء منهم الإيمان ، وهذا نص في المسألة . قالت
المعتزلة : دل الدليل على أنه تعالى أراد الإيمان من جميع الكفار ،
والجبائي ذكر الوجوه المشهورة التي لهم في هذه المسألة :
أولها : أنه تعالى لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم لم يجب عليهم .
وثانيها : لو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر
[ ص: 124 ] مطيعا لله بفعل الكفر ؛ لأنه لا معنى للطاعة إلا بفعل المراد .
وثالثها : لو جاز من الله أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به .
ورابعها : لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر . قالوا : فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلا الإيمان منهم وظاهر هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم ، والتناقض بين الدلائل ممتنع فوجب التوفيق ؛ وطريقه أن نقول : إنه تعالى شاء من الكل الإيمان الذي يفعلونه على سبيل الاختيار ، وأنه تعالى ما شاء منهم الإيمان الحاصل على سبيل الإلجاء والقهر ، وبهذا الطريق زال الإشكال .
واعلم أن هذا الكلام أيضا ضعيف من وجوه :
الأول : أن الإيمان الذي سموه
بالإيمان الاختياري ، إن عنوا به أن قدرته صالحة للإيمان والكفر على السوية ، ثم إنه يصدر عنها الإيمان دون الكفر لا لداعية مرجحة ولا لإرادة مميزة ، فهذا قول برجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال ، وأيضا فبتقدير أن يكون ذلك معقولا في الجملة إلا أن حصول ذلك الإيمان لا يكون منه ، بل يكون حادثا لا لسبب ولا مؤثر أصلا ؛ لأن الحاصل هناك ليس إلا القدرة ، وهي بالنسبة إلى الضدين على السوية ، ولم يصدر من هذا القدر تخصيص لأحد الطرفين على الآخر بالوقوع والرجحان ، ثم إن أحد الطرفين قد حصل بنفسه ، فهذا لا يكون صادرا منه بل يكون صادرا لا عن سبب البتة ، وذلك يبطل القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر أصلا ، ولا يقوله عاقل ، وإما أن يكون هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري هو أن قدرته وإن كانت صالحة للضدين إلا أنها لا تصير مصدرا للإيمان إلا إذا انضم إلى تلك القدرة حصول داعية الإيمان كان هذا قولا بأن مصدر الإيمان هو مجموع القدرة مع الداعي ، وذلك المجموع موجب للإيمان ، فذلك هو عين ما يسمونه بالجبر وأنتم تنكرونه ، فثبت أن هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري لم يحصل منه معنى معقول مفهوم ، وقد عرفت أن هذا الكلام في غاية القوة .
والوجه الثاني : سلمنا أن الإيمان الاختياري مميز عن الإيمان الحاصل بتكوين الله تعالى ، إلا أنا نقول قوله تعالى : (
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ) وكذا وكذا ما كانوا ليؤمنوا ، معناه : ما كانوا ليؤمنوا إيمانا اختياريا بدليل أن عند ظهور هذه الأشياء لا يبعد أن يؤمنوا إيمانا على سبيل الإلجاء والقهر ، فثبت أن قوله : (
ما كانوا ليؤمنوا ) المراد : ما كانوا ليؤمنوا على سبيل الاختيار ، ثم استثنى عنه فقال : (
إلا أن يشاء الله ) والمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى عنه ، والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياري ، فثبت أنه لا يجوز أن يقال : المراد بقولنا : إلا أن يشاء الله ، الإيمان الاضطراري بل يجب أن يكون المراد منه الإيمان الاختياري ، وحينئذ يتوجه دليل أصحابنا ويسقط عنه سؤال المعتزلة بالكلية .
المسألة الثانية : قال
الجبائي قوله تعالى : (
إلا أن يشاء الله ) يدل على حدوث
مشيئة الله تعالى ؛ لأنها لو كانت قديمة لم يجز أن يقال ذلك ، كما لا يقال : لا يذهب زيد إلى
البصرة إلا أن يوحد الله تعالى ، وتقريره أنا إذا قلنا : لا يكون كذلك إلا أن يشاء الله فهذا يقتضي تعليق حدوث هذا الجزاء على حصول المشيئة فلو كانت المشيئة قديمة لكان الشرط قديما ، ويلزم من حصول الشرط حصول المشروط ، فيلزم كون الجزاء قديما . والحس دل على أنه محدث ، فوجب كون الشرط حادثا ، وإذا كان الشرط هو المشيئة لزم القول بكون المشيئة حادثة ، هذا تقرير هذا الكلام .
والجواب : أن المشيئة وإن كانت قديمة إلا أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة
[ ص: 125 ] وهذا القدر يكفي لصحة هذا الكلام ، ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله : (
ولكن أكثرهم يجهلون ) قال أصحابنا : المراد ، يجهلون بأن الكل من الله وبقضائه وقدره ، وقال
المعتزلة : المراد ، أنهم جهلوا أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآيات التي طلبوها ، والمعجزات التي اقترحوها ، وكان أكثرهم يظنون ذلك .