(
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون )
قوله تعالى : (
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ ص: 138 ] اعلم أنه تعالى لما بين أنه يحل أكل ما ذبح على اسم الله ، ذكر بعده تحريم ما لم يذكر عليه اسم الله ، ويدخل فيه الميتة ، ويدخل فيه ما ذبح على ذكر الأصنام ، والمقصود منه إبطال ما ذكره المشركون . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : نقل عن
عطاء أنه قال : كل ما لم يذكر عليه اسم الله من طعام أو شراب ، فهو حرام ، تمسكا بعموم هذه الآية . وأما سائر الفقهاء فإنهم أجمعوا على تخصيص هذا العموم بالذبح ، ثم اختلفوا فقال
مالك : كل
ذبح لم يذكر عليه اسم الله فهو حرام ، سواء ترك ذلك الذكر عمدا أو نسيانا . وهو قول
ابن سيرين وطائفة من المتكلمين . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة رحمه الله تعالى : إن ترك الذكر عمدا حرم ، وإن ترك نسيانا حل .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى : يحل متروك التسمية سواء ترك عمدا أو خطأ إذا كان الذابح أهلا للذبح ، وقد ذكرنا هذه المسألة على الاستقصاء في تفسير قوله : (
إلا ما ذكيتم ) [ المائدة : 3 ] فلا فائدة في الإعادة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى : هذا النهي مخصوص بما إذا ذبح على اسم النصب ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : قوله تعالى : (
وإنه لفسق ) وأجمع المسلمون على أنه لا يفسق
أكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية .
وثانيها : قوله تعالى : (
وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة ، روي أن ناسا من المشركين قالوا للمسلمين : ما يقتله الصقر والكلب تأكلونه ، وما يقتله الله فلا تأكلونه . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنهم قالوا : تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما يقتله الله ، فهذه المناظرة مخصوصة بأكل الميتة .
وثالثها : قوله تعالى : (
وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) وهذا مخصوص
بما ذبح على اسم النصب ، يعني لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم إلهية الأوثان ، فقد رضيتم بإلهيتها وذلك يوجب الشرك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى : فأول الآية وإن كان عاما بحسب الصيغة ، إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة علمنا أن المراد من ذلك العموم هو هذا الخصوص ، ومما يؤكد هذا المعنى هو أنه تعالى قال : (
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) فقد صار هذا النهي مخصوصا بما إذا كان هذا الأمر فسقا ، ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يصير فسقا ؟ فرأينا هذا الفسق مفسرا في آية أخرى ، وهو قوله : (
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ) [ الأنعام : 145 ] فصار الفسق في هذه الآية مفسرا بما أهل به لغير الله ، وإذا كان كذلك كان قوله : (
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) مخصوصا بما أهل به لغير الله .
والمقام الثاني : أن نترك التمسك بهذه المخصصات ، لكن نقول لم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله هاهنا ؟ والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل " ، ويحمل هذا الذكر على ذكر القلب .
والمقام الثالث : وهو أن نقول : هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن سائر الدلائل المذكورة في هذه المسألة توجب الحل ، ومتى تعارضت وجب أن يكون الراجح هو الحل ؛ لأن الأصل في المأكولات الحل ، وأيضا يدل عليه جميع العمومات المقتضية لحل الأكل والانتفاع كقوله تعالى : (
خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [ البقرة : 29 ] وقوله : (
كلوا واشربوا ) [ البقرة : 60 ] لأنه مستطاب بحسب الحس فوجب أن يحل لقوله تعالى : (
أحل لكم الطيبات ) ولأنه مال لأن الطبع يميل إليه ، فوجب أن لا يحرم لما روي عن
[ ص: 139 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012653نهى عن إضاعة المال ، فهذا تقرير الكلام في هذه المسألة ومع ذلك فنقول : الأولى بالمسلم أن يحترز عنه لأن ظاهر هذا النص قوي .
المسألة الثانية : الضمير في قوله : (
وإنه لفسق ) إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان : الأول : أن قوله ( لا تأكلوا ) يدل على الأكل ؛ لأن الفعل يدل على المصدر ، فهذا الضمير عائد إلى هذا المصدر . والثاني : كأنه جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقا ، على سبيل المبالغة .
وأما قوله : (
وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ففيه قولان : الأول : أن المراد من الشياطين هاهنا إبليس وجنوده ، وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوا
محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أكل الميتة . والثاني : قال
عكرمة : وإن الشياطين ، يعني مردة المجوس ، ليوحون إلى أوليائهم من مشركي
قريش ، وذلك لأنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من
أهل فارس ، فكتبوا إلى
قريش ، وكانت بينهم مكاتبة ، أن
محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ، ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام . فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ثم قال : (
وإن أطعتموهم ) يعني في استحلال الميتة (
إنكم لمشركون ) قال
الزجاج : وفيه دليل على أن كل
من أهل شيئا مما حرم الله تعالى ، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى فهو مشرك ، وإنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى ، وهذا هو الشرك .
المسألة الثالثة : قال
الكعبي : الآية حجة على أن
الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق ، كما جعل تعالى الشرك اسما لكل ما كان مخالفا لله تعالى ، وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله شريكا ، بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركا .
ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك هاهنا اعتقاد أن الله تعالى شريكا في الحكم والتكليف ؟ وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط .