أما قوله : (
كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ففيه بحثان :
البحث الأول : الكاف في قوله : ( كذلك ) يفيد التشبيه بشيء ، وفيه وجهان :
الأول : التقدير أن
يجعل الله الرجس عليهم كجعله ضيق الصدر في قلوبهم .
والثاني : قال
الزجاج التقدير : مثل ما قصصنا عليك ، يجعل الله الرجس .
البحث الثاني : اختلفوا في
تفسير " الرجس " فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هو الشيطان يسلطه الله عليهم ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : " الرجس " ما لا خير فيه . وقال
عطاء : " الرجس " العذاب . وقال
الزجاج : " الرجس " اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة .
ولنختم تفسير هذه الآية بما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي أنه قال تذاكرنا في أمر
القدرية عند
ابن عمر . فقال : لعنت
القدرية على لسان سبعين نبيا ، منهم نبينا صلى الله عليه وسلم . فإذا كان يوم القيامة نادى مناد ، وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله فتقوم
القدرية ، وقد أورد القاضي هذا الحديث في تفسيره . وقال : هذا الحديث من أقوى ما يدل على
أن القدرية هم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى قضاء وقدرا [ ص: 151 ] وخلقا ؛ لأن الذين يقولون هذا القول ، هم خصماء الله؛ لأنهم يقولون لله أي ذنب لنا حتى تعاقبنا ، وأنت الذي خلقته فينا وأردته منا ، وقضيته علينا ، ولم تخلقنا إلا له ، وما يسرت لنا غيره ؟ فهؤلاء لا بد وأن يكونوا خصماء الله بسبب هذه الحجة . أما الذين قالوا : إن الله مكن وأزاح العلة ، وإنما أتى العبد من قبل نفسه ، فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة ، فلا يكونون خصماء الله ، بل يكونون منقادين لله ، هذا كلام القاضي وهو عجيب جدا ، وذلك لأنه يقال له: يبعد منك أنك ما عرفت من مذاهب خصومك أنه ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه ، وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب ، وليس للعبد على الرب اعتراض ولا مناظرة ، فكيف يصير الإنسان الذي هذا دينه واعتقاده خصما لله تعالى .
أما الذين يكونون خصماء لله فهم
المعتزلة ، وتقريره من وجوه :
الأول : أنه يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ، ويقول : لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولا عن الربوبية وصرت من جملة السفهاء ، فهذا الذي مذهبه واعتقاده ذلك هو الخصم لله تعالى .
والثاني : أن من واظب على الكفر سبعين سنة ، ثم إنه في آخر زمن حياته قال : لا إله إلا الله
محمد رسول الله عن القلب ، ثم مات ، ثم إن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة والدرجات الزائدة ألف ألف سنة ، ثم أراد أن يقطع تلك النعم عنه لحظة واحدة ، فذلك العبد يقول : أيها الإله إياك ، ثم إياك أن تترك ذلك لحظة واحدة ، فإنك إن تركته لحظة واحدة صرت معزولا عن الإلهية ، والحاصل : أن إقدام ذلك العبد على ذلك الإيمان لحظة واحدة أوجب على الإله إيصال تلك النعم مدة لا آخر لها ، ولا طريق له البتة إلى الخلاص عن هذه العهدة ، فهذا هو الخصومة . أما من يقول إنه لا حق لأحد من الملائكة والأنبياء على الله تعالى . وكل ما يوصل إليهم من الثواب فهو تفضل وإحسان من الله تعالى ، فهذا لا يكون خصما .
والوجه الثالث : في تقرير هذه الخصومة ما حكي أن الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه
nindex.php?page=showalam&ids=13980أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن يوما من الأيام عقد
الجبائي مجلس التذكير وحضر عنده عالم من الناس ، وذهب الشيخ
أبو الحسن إلى ذلك المجلس ، وجلس في بعض الجوانب مختفيا عن
الجبائي ، وقال لبعض من حضر هناك من العجائز إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ قولي له: كان لي ثلاثة من البنين واحد كان في غاية الدين والزهد ، والثاني كان في غاية الكفر والفسق ، والثالث كان صبيا لم يبلغ ، فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم . فقال
الجبائي : أما الزاهد ، ففي درجات الجنة ، وأما الكافر ، ففي دركات النار ، وأما الصبي ، فمن أهل السلامة . قال قولي له : لو أن الصبي أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد هل يمكن منه . فقال
الجبائي : لا ؛ لأن الله يقول له إنما وصل إلى تلك الدرجات العالية بسبب أنه أتعب نفسه في العلم والعمل . وأنت فليس معك ذاك فقال
أبو الحسن : قولي له: لو أن الصبي حينئذ يقول : يا رب العالمين ليس الذنب لي ، لأنك أمتني قبل البلوغ ولو أمهلتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد والدين .
فقال
الجبائي : يقول الله له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار ، فقبل أن تصل إلى تلك الحالة راعيت مصلحتك وأمتك حتى تنجو من العقاب ، فقال
أبو الحسن : قولي له: لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار ، فقال : يا رب العالمين ، ويا أحكم الحاكمين ، ويا أرحم
[ ص: 152 ] الراحمين ، كما علمت من ذلك الأخ الصغير أنه لو بلغ كفر علمت مني ذلك ، فلم راعيت مصلحته وما راعيت مصلحتي ؟ قال الراوي : فلما وصل الكلام إلى هذا الموضع انقطع
الجبائي . فلما نظر رأى
أبا الحسن ، فعلم أن هذه المسألة منه ، لا من العجوز ، ثم إن
أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار أو أكثر من بعد
الجبائي فأراد أن يجيب عن هذا السؤال ، فقال : نحن لا نرضى في حق هؤلاء الإخوة الثلاثة بهذا الجواب الذي ذكرتم ، بل لنا هاهنا جوابان آخران سوى ما ذكرتم ، ثم قال : وهو مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها ، وهي أنه هل يجب على الله أن يكلف العبد أم لا ؟ فقال البصريون : التكليف محض التفضل والإحسان ، وهو غير واجب على الله تعالى . وقال البغداديون : إنه واجب على الله تعالى . قال : فإن فرعنا على قول البصريين ، فلله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد ، وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلا على أخيك الزاهد بهذا الفضل أن أكون متفضلا عليك بمثله . وأما إن فرعنا على قول البغداديين . فالجواب أن يقال : إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف عليه كان إحسانا في حقه ، ولم يلزم منه عود مفسدة إلى الغير فلا جرم فعلته ، وأما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك كان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك ، فلهذا السبب ما فعلت ذلك في حقك فظهر الفرق . هذا تلخيص كلام
أبي الحسين البصري سعيا منه في تخليص شيخه المتقدم عن سؤال الأشعري ، بل سعيا منه في تخليص إلهه عن سؤال العبد ، وأقول قبل الخوض في الجواب عن كلام
أبي الحسين : صحة هذه المناظرة الدقيقة بين العبد وبين الله ، إنما لزمت على قول
المعتزلة . وأما على قول أصحابنا رحمهم الله فلا مناظرة البتة بين العبد وبين الرب ، وليس للعبد أن يقول لربه ، لم فعلت كذا ؟ أو ما فعلت كذا . فثبت أن خصماء الله هم
المعتزلة ، لا أهل السنة ، وذلك يقوي غرضنا ويحصل مقصودنا ، ثم نقول :
أما الجواب الأول : وهو أن إطالة العمر وتوجيه التكليف تفضل ، فيجوز أن يخص به بعضا دون بعض . فنقول : هذا الكلام مدفوع؛ لأنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما ، فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح من الله تعالى ؛ لأن الإيصال إلى هذا الثاني ، ليس فعلا شاقا على الله تعالى ، ولا يوجب دخول نقصان في ملكه بوجه من الوجوه ، وهذا الثاني يحتاج إلى ذلك التفضل ، ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد . ألا ترى أن من منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجدار لعامة الناس قبح ذلك منه؛ لأنه منع من النفع من غير اندفاع ضرر إليه ، ولا وصول نفع إليه ، فإن كان حكم العقل بالتحسين والتقبيح مقبولا ، فليكن مقبولا هاهنا ، وإن لم يكن مقبولا لم يكن مقبولا البتة في شيء من المواضع ، وتبطل كلية مذهبكم . فثبت أن هذا الجواب فاسد .
وأما الجواب الثاني : فهو أيضا فاسد ، وذلك لأن قولنا : تكليفه يتضمن مفسدة ليس معناه أن هذا التكليف يوجب لذاته حصول تلك المفسدة ، وإلا لزم أن تحصل هذه المفسدة أبدا في حق الكل وأنه باطل ، بل معناه : أن الله تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص ، فإن إنسانا آخر يختار من قبل نفسه فعلا قبيحا ، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تكليفه ، فكذلك قد علم من ذلك الكافر أنه إذا كلفه فإنه يختار الكفر عند ذلك التكليف ، فوجب أن يترك تكليفه ، وذلك يوجب قبح تكليف من علم الله من حاله أنه يكفر ، وإن لم يجب هاهنا لم يجب هنالك ، وأما القول بأنه يجب عليه تعالى ترك التكليف إذا علم أن غيره يختار فعلا قبيحا عند
[ ص: 153 ] ذلك التكليف ، ولا يجب عليه تركه إذا علم تعالى أن ذلك الشخص يختار القبيح عند ذلك التكليف ، فهذا محض التحكم . فثبت أن الجواب الذي استخرجه
أبو الحسين بلطيف فكره ، ودقيق نظره بعد أربعة أدوار ضعيف ، وظهر أن خصماء الله هم
المعتزلة ، لا أصحابنا ، والله أعلم .