(
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين )
قوله تعالى : (
يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين )
اعلم أن هذه الآية من بقية ما يذكره الله تعالى في
توبيخ الكفار يوم القيامة ، وبين تعالى أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل ، فيشهدون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين ، وإنهم لم يعذبوا إلا بالحجة . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أهل اللغة : المعشر . كل جماعة أمرهم واحد ، ويحصل بينهم معاشرة ومخالطة ، والجمع : المعاشر . وقوله : (
رسل منكم ) اختلفوا
هل كان من الجن رسول أم لا ؟ فقال
الضحاك :
[ ص: 160 ] أرسل من الجن رسل كالإنس وتلا هذه الآية وتلا قوله : (
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [ فاطر : 24 ] ويمكن أن يحتج
الضحاك بوجه آخر وهو قوله تعالى : (
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) [ الأنعام : 9 ] قال المفسرون : السبب فيه أن استئناس الإنسان بالإنسان أكمل من استئناسه بالملك ، فوجب في
حكمة الله تعالى أن يجعل رسول الإنس من الإنس ليكمل هذا الاستئناس .
إذا ثبت هذا المعنى ، فهذا السبب حاصل في الجن ، فوجب أن يكون رسول الجن من الجن .
والقول الثاني : وهو قول الأكثرين : أنه ما كان من الجن رسول البتة ، وإنما كان
الرسل من الإنس . وما رأيت في تقرير هذا القول حجة إلا ادعاء الإجماع ، وهو بعيد لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف ، ويمكن أن يستدل فيه بقوله تعالى : (
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [ آل عمران : 33 ] وأجمعوا على أن المراد بهذا الاصطفاء إنما هو النبوة ، فوجب كون النبوة مخصوصة بهؤلاء القوم فقط ، فأما تمسك
الضحاك بظاهر هذه الآية ، فالكلام عليه من وجوه :
الأول : أنه تعالى قال : (
يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) فهذا يقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضا من أبعاض هذا المجموع ، وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضا من أبعاض ذلك المجموع ، فكان هذا القدر كافيا في حمل اللفظ على ظاهره ، فلم يلزم من ظاهر هذه الآية إثبات رسول من الجن .
الثاني : لا يبعد أن يقال : إن الرسل كانوا من الإنس إلا أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل ويأتوا قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به ، كما قال تعالى : (
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) [ الأحقاف : 29 ] فأولئك الجن كانوا رسل الرسل ، فكانوا رسلا لله تعالى ، والدليل عليه : أنه تعالى سمى رسل
عيسى رسل نفسه . فقال : (
إذ أرسلنا إليهم اثنين ) [ يس : 14 ] وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة ، بسبب أنه
أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين ، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق ، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة ، فكان المقصود حاصلا .
الوجه الثالث في الجواب: قال
الواحدي : قوله تعالى : (
رسل منكم ) أراد من أحدكم وهو الإنس وهو كقوله : (
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) [ الرحمن : 22 ] أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب .
واعلم أن الوجهين الأولين لا حاجة معهما إلى ترك الظاهر . أما هذا الثالث فإنه يوجب ترك الظاهر ، ولا يجوز المصير إليه إلا بالدليل المنفصل .
أما قوله : (
يقصون عليكم آياتي ) فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتلاوة وبالتأويل (
وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) أي يخوفونكم عذاب هذا اليوم فلم يجدوا عند ذلك إلا الاعتراف ، فلذلك قالوا : شهدنا على أنفسنا .
فإن قالوا : ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله : (
والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنبياء : 23 ] .
قلنا : يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة ، فتارة يقرون ، وأخرى يجحدون ، وذلك يدل على شدة
[ ص: 161 ] خوفهم واضطراب أحوالهم ، فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه .
ثم قال تعالى : (
وغرتهم الحياة الدنيا ) والمعنى أنهم لما أقروا على أنفسهم بالكفر ، فكأنه تعالى يقول : وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا .
ثم قال تعالى : (
وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) والمراد أنهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم ، إلا أن عاقبة أمرهم أنهم أقروا على أنفسهم بالكفر ، ومن الناس من حمل قوله : (
وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) بأن تشهد عليهم الجوارح بالشرك والكفر ، ومقصودهم دفع التكرار عن الآية ، وكيفما كان ، فالمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجرهم في الدنيا عن الكفر والمعصية .
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بقوله تعالى : (
ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) على أنه لا يحصل الوجوب البتة قبل ورود الشرع ، فإنه لو حصل الوجوب واستحقاق العقاب قبل ورود الشرع لم يكن لهذا التعليل والذكر فائدة .