المسألة الثالثة : احتج أصحابنا على قولهم الكل بمشيئة الله تعالى بقوله : (
فلو شاء لهداكم أجمعين ) فكلمة " لو " في اللغة تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فدل هذا على أنه تعالى ما شاء أن يهديهم ، وما هداهم أيضا .
وتقريره بحسب الدليل العقلي ، أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن قدرة على الإيمان ، فالله تعالى على هذا التقدير ما أقدره على الإيمان ، فلو شاء الإيمان منه ، فقد شاء الفعل من غير قدرة على الفعل ، وذلك محال ومشيئة المحال محال ، وإن كانت
القدرة على الكفر قدرة على الإيمان توقف رجحان أحد الطرفين على حصول الداعية المرجحة .
فإن قلنا : إنه تعالى خلق تلك الداعية فقد حصلت الداعية المرجحة مع القدرة ، ومجموعهما موجب للفعل ، فحيث لم يحصل الفعل علمنا أن تلك الداعية لم تحصل ، وإذا لم تحصل امتنع منه فعل الإيمان ، وإذا امتنع ذلك منه ، امتنع أن يريده الله منه ؛ لأن إرادة المحال محال ممتنع ، فثبت أن
ظاهر القرآن دل على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكافر ، والبرهان العقلي الذي قررناه يدل عليه أيضا ، فبطل قولهم من كل الوجوه ، أما قوله : تحمل هذه الآية على مشيئة الإلجاء فنقول : هذا التأويل إنما يحسن المصير إليه لو ثبت بالبرهان العقلي امتناع الحمل على ظاهر هذا الكلام ، أما لو قام البرهان العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل
[ ص: 188 ] عليه هذا الظاهر ، فكيف يصار إليه ؟ ثم نقول : هذا الدليل باطل من وجوه :
الأول : أن هذا الكلام لا بد فيه من إضمار ، فنحن نقول : التقدير : لو شاء الهداية لهداكم ، وأنتم تقولون التقدير : لو شاء الهداية على سبيل الإلجاء لهداكم ، فإضماركم أكثر فكان قولكم مرجوحا .
الثاني : أنه تعالى يريد من الكافر الإيمان الاختياري ،
والإيمان الحاصل بالإلجاء غير الإيمان الحاصل بالاختيار ، وعلى هذا التقدير يلزم كونه تعالى عاجزا عن تحصيل مراده ؛ لأن مراده هو الإيمان الاختياري ، وأنه لا يقدر البتة على تحصيله ، فكان القول بالعجز لازما .
الثالث : أن هذا الكلام موقوف على
الفرق بين الإيمان الحاصل بالاختيار ، وبين الإيمان الحاصل بالإلجاء . أما الإيمان الحاصل بالاختيار . فإنه يمتنع حصوله إلا عند حصول داعية جازمة ، وإرادة لازمة . فإن الداعية التي يترتب عليها حصول الفعل ، إما أن تكون بحيث يجب ترتب الفعل عليها أو لا يجب . فإن وجب فهي الداعية الضرورية ، وحينئذ لا يبقى بينها وبين الداعية الحاصلة بالإلجاء فرق . وإن لم يجب ترتب الفعل عليها ، فحينئذ يمكن تخلف الفعل عنها ، فلنفرض تارة ذلك الفعل متخلفا عنها ، وتارة غير متخلف ، فامتياز أحد الوقتين عن الآخر لا بد وأن يكون لمرجح زائد فالحاصل قبل ذلك ما كان تمام الداعية ، وقد فرضناه كذلك ، وهذا خلف ، ثم عند انضمام هذا القيد الزائد إن وجب الفعل لم يبق بينه وبين الضرورية فرق ، وإن لم يجب افتقر إلى قيد زائد ولزم التسلسل ، وهو محال . فثبت أن الفرق الذي ذكروه بين الداعية الاختيارية وبين الداعية الضرورية وإن كان في الظاهر معتبرا ، إلا أنه عند التحقيق والبحث لا يبقى له محصول .