(
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين )
قوله تعالى : (
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير وجه النظم وجهان :
الوجه الأول : أنه تعالى لما أمر الرسل في الآية المتقدمة بالتبليغ ، وأمر الأمة بالقبول والمتابعة ، وذكر التهديد على ترك القبول والمتابعة بذكر نزول العذاب في الدنيا ، أتبعه بنوع آخر من التهديد ، وهو
أنه تعالى [ ص: 20 ] يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة .
الوجه الثاني : أنه تعالى لما قال : (
فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) أتبعه بأنه لا يقع يوم القيامة الاقتصار على ما يكون منهم من الاعتراف . بل ينضاف إليه أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم ، وبين أن هذا السؤال لا يختص بأهل العقاب . بل هو عام في أهل العقاب وأهل الثواب .
المسألة الثانية : الذين أرسل إليهم هم الأمة ، والمرسلون هم الرسل ، فبين تعالى أنه يسأل هذين الفريقين ، ونظير هذه الآية قوله : (
فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) ( الحجر : 92 ) .
ولقائل أن يقول : المقصود من السؤال أن يخبر المسؤول عن كيفية أعماله ، فلما أخبر الله عنهم في الآية المتقدمة أنهم يقرون بأنهم كانوا ظالمين ، فما الفائدة في ذكر هذا السؤال بعده ؟
وأيضا قال تعالى بعد هذه الآية : (
فلنقصن عليهم بعلم ) فإذا كان يقصه عليهم بعلم ، فما معنى هذا السؤال ؟
والجواب : أنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين ، سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير ، والمقصود منه التقريع والتوبيخ .
فإن قيل : فما
الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة ؟
قلنا : لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة التحق التقصير بكليته بالأمة ، فيتضاعف إكرام الله في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير ، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار ، لما ثبت أن كل التقصير كان منهم .
ثم قال تعالى : (
فلنقصن عليهم بعلم ) والمراد أنه تعالى يكرر ويبين للقوم ما أعلنوه وأسروه من أعمالهم ، وأن يقص الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال ، ثم بين تعالى أنه إنما يصح منه أن يقص تلك الأحوال عليهم ؛ لأنه ما كان غائبا عن أحوالهم بل كان عالما بها . وما خرج عن علمه شيء منها ، وذلك يدل على أن الإلهية لا تكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيات ، حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي ، والمحسن عن المسيء ، فظهر أن كل من أنكر كونه تعالى عالما بالجزئيات ، امتنع منه الاعتراف بكونه تعالى آمرا ناهيا مثيبا معاقبا ، ولهذا السبب فإنه تعالى أينما ذكر أحوال البعث والقيامة بين كونه عالما بجميع المعلومات .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : (
فلنقصن عليهم بعلم ) يدل على أنه تعالى عالم بالعلم ، وأن قول من يقول : إنه لا علم لله ، قول باطل .
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : (
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) وبين قوله : (
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) ( الرحمن : 39 ) وقوله : (
ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) ( القصص : 78 ) .
قلنا : فيه وجوه :
أحدها : إن القوم لا يسألون عن الأعمال ، لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال ، وعن الصوارف التي صرفتهم عنها .
وثانيها : إن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة ، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة ، كقول القائل : ألم أعطك ؟ وقوله تعالى : (
ألم أعهد إليكم يابني آدم ) ( يس : 60 ) قال الشاعر :
[ ص: 21 ] ألستم خير من ركب المطايا
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد ، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم ، ونظيره قوله تعالى : (
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) ( الصافات : 27 ) ثم قال : (
فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) ( المؤمنون : 101 ) فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضا ، والدليل عليه قوله : (
فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ) ( القلم : 30 ) وقوله : (
فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) ( المؤمنون : 101 ) معناه : أنه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف ؛ لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام .
والوجه الثالث في الجواب : إن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة ، فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال ، وعن بعضها بعدم السؤال .
المسألة الرابعة : الآية تدل على
أنه تعالى يحاسب كل عباده ؛ لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلا أو مرسلا إليهم ، ويبطل
قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار .
المسألة الخامسة : الآية تدل على
كونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ؛ لأنه تعالى قال : (
وما كنا غائبين ) ولو كان تعالى على العرش لكان غائبا عنا .
فإن قالوا : نحمله على أنه تعالى ما كان غائبا عنهم بالعلم والإحاطة .
قلنا : هذا تأويل والأصل في الكلام حمله على الحقيقة .
فإن قالوا : فأنتم لما قلتم أنه تعالى غير مختص بشيء من الأحياز والجهات ، فقد قلتم أيضا بكونه غائبا .
قلنا : هذا باطل ؛ لأن الغائب هو الذي يعقل أن يحضر بعد غيبة ، وذلك مشروط بكونه مختصا بمكان وجهة ، فأما الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة وكان ذلك محالا في حقه ، امتنع
وصفه بالغيبة والحضور ، فظهر الفرق ، والله أعلم .