(
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون )
قوله سبحانه وتعالى : (
يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون )
اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء -عليهم السلام- حصول العبرة لمن يسمعها ، فكأنه تعالى لما ذكر قصة
آدم وبين فيها شدة عداوة الشيطان
لآدم وأولاده أتبعها بأن حذر أولاد
آدم من قبول وسوسة الشيطان فقال : (
يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده ولطف وسوسته وشدة اهتمامه إلى أن قدر على إلقاء
آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة ، فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى . فبهذا الطريق
حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان فقال : (
لا يفتننكم الشيطان ) فيترتب عليه أن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم ، فترتب عليه خروجهما منها وأصل الفتون عرض الذهب على النار وتخليصه من الغش . ثم أتى في القرآن بمعنى المحنة وههنا بحثان :
البحث الأول : قال
الكعبي : هذه الآية حجة على من نسب خروج
آدم وحواء وسائر وجوه المعاصي إلى الشيطان : وذلك يدل على أنه تعالى بريء منها . فيقال له : لم قلتم أن كون هذا العمل منسوبا إلى الشيطان يمنع من كونه منسوبا إلى الله تعالى ؟ ولم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى لما خلق القدرة والداعية الموجبتين لذلك العمل ، كان منسوبا إلى الله تعالى ؟ ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الداعية بعد تزيين الشيطان ، وتحسينه تلك الأعمال عند ذلك الكافر ، كان منسوبا إلى الشيطان .
البحث الثاني : ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما أخرج
آدم وحواء من الجنة ، عقوبة لهما على تلك الزلة ، وظاهر قوله : (
إني جاعل في الأرض خليفة ) ( البقرة : 30 ) يدل على أنه تعالى خلقهما لخلافة الأرض وأنزلهما من الجنة إلى الأرض لهذا المقصود . فكيف الجمع بين الوجهين ؟
[ ص: 45 ] وجوابه : أنه ربما قيل حصل لمجموع الأمرين ، والله أعلم .
ثم قال : (
ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ) وفيه مباحث :
البحث الأول : (
ينزع عنهما لباسهما ) حال ، أي أخرجهما نازعا لباسهما وأضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك ؛ لأنه كان بسبب منه ، فأسند إليه كما تقول : أنت فعلت هذا ؟ لمن حصل منه ذلك الفعل بسبب ، وإن لم يباشره ، وكذلك لما كان نزع لباسهما بوسوسة الشيطان وغروره أسند إليه .
البحث الثاني : اللام في قوله : ( ليريهما ) لام العاقبة كما ذكرنا في قوله : ( ليبدي لهما ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه : ما يرى
آدم سوءة
حواء وترى
حواء سوءة
آدم .
البحث الثالث : اختلفوا في
اللباس الذي نزع منهما ، فقال بعضهم : إنه النور ، وبعضهم : التقى ، وبعضهم : اللباس الذي هو ثياب الجنة ، وهذا القول أقرب ؛ لأن إطلاق اللباس يقتضيه ، والمقصود من هذا الكلام تأكيد التحذير لبني آدم ؛ لأنه لما بلغ تأثير وسوسة الشيطان في حق
آدم مع جلالة قدره إلى هذا الحد ، فكيف يكون حال آحاد الخلق ؟ ثم أكد تعالى هذا التحذير بقوله : (
إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) وفيه مباحث :
البحث الأول : (
إنه يراكم ) يعني إبليس (
هو وقبيله ) أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله : (
اسكن أنت وزوجك الجنة ) .
البحث الثاني : قال
أبو عبيدة عن
أبي زيد : "القبيل" الجماعة يكونون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى ، وجمعه قبل . والقبيلة : بنو أب واحد . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة : قبيله أصحابه وجنده ، وقال
الليث : (
هو وقبيله ) أي هو ومن كان من نسله .
البحث الثالث : قال أصحابنا : إنهم يرون الإنس ؛ لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكا ، والإنس لا يرونهم ؛ لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس ، وقالت
المعتزلة : الوجه في أن الإنس لا يرون الجن ، رقة أجسام الجن ولطافتها . والوجه في
رؤية الجن للإنس ، كثافة أجسام الإنس ، والوجه في أن
يرى بعض الجن بعضا ، أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ، ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضا ، ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم ، فعلى هذا كون الإنس مبصرا للجن موقوف عند
المعتزلة : إما على زيادة كثافة أجسام الجن ، أو على زيادة قوة أبصار الإنس .
البحث الرابع : قوله تعالى : (
من حيث لا ترونهم ) يدل على أن
الإنس لا يرون الجن ؛ لأن قوله : (
من حيث لا ترونهم ) يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص ، قال بعض العلماء ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاءوا وأرادوا ، لوجب أن ترتفع الثقة عن معرفة الناس ، فلعل هذا الذي أشاهده وأحكم عليه بأنه ولدي أو زوجتي جني صور نفسه بصورة ولدي أو زوجتي ، وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص ، وأيضا فلو كانوا قادرين على تخبيط الناس وإزالة العقل عنهم مع أنه تعالى بين العداوة الشديدة بينهم وبين الإنس ، فلم لا يفعلون ذلك في حق أكثر البشر وفي حق العلماء والأفاضل والزهاد ؟ لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزهاد أكثر وأقوى ، ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنه لا قدرة لهم على البشر بوجه من الوجوه . ويتأكد هذا بقوله : (
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي )
[ ص: 46 ] [إبراهيم : 22] قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : قال إبليس : أعطينا أربع خصال : نرى ولا نرى ، ونخرج من تحت الثرى ، ويعود شيخنا فتى .
ثم قال تعالى : (
إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) فقد احتج أصحابنا بهذا النص على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان الرجيم عليهم حتى أضلهم وأغواهم ، قال
الزجاج : ويتأكد هذا النص بقوله تعالى : (
أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) ( مريم : 83 ) قال القاضي : معنى قوله : (
جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) هو أنا حكمنا بأن
الشيطان ولي لمن لا يؤمن ، قال : ومعنى قوله : (
أرسلنا الشياطين على الكافرين ) ( مريم : 83 ) هو أنا خلينا بينهم وبينهم ، كما يقال فيمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل : إنه أرسل عليه كلبه .
والجواب : إن القائل إذا قال : إن فلانا جعل هذا الثوب أبيض أو أسود ، لم يفهم منه أنه حكم به ، بل يفهم منه أنه حصل السواد أو البياض فيه ، فكذلك ههنا وجب حمل الجعل على التأثير والتحصيل ، لا على مجرد الحكم ، وأيضا فهب أنه تعالى حكم بذلك ، لكن مخالفة حكم الله تعالى توجب كونه كاذبا وهو محال ، فالمفضي إلى المحال محال ، فكون العبد قادرا على خلاف ذلك ، وجب أن يكون محالا .
وأما قوله إن قوله تعالى : (
أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) أي خلينا بينهم وبين الكافرين فهو ضعيف أيضا ، ألا ترى أن أهل السوق يؤذي بعضهم بعضا ، ويشتم بعضهم بعضا ، ثم إن زيدا وعمرا إذا لم يمنع بعضهم عن البعض . لا يقال إنه أرسل بعضهم على البعض ، بل لفظ الإرسال إنما يصدق إذا كان تسليط بعضهم على البعض بسبب من جهته ، فكذا ههنا . والله أعلم .