ثم قال بعده : (
تبارك الله رب العالمين ) والبركة لها تفسيران :
أحدهما : البقاء والثبات .
والثاني : كثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة .
وكلا التفسيرين لا يليق إلا بالحق سبحانه ، فإن حملته على الثبات والدوام ، فالثابت والدائم هو الله تعالى لأنه الموجود الواجب لذاته العالم لذاته القائم بذاته الغني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه ، فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنهى الافتقارات وهو غني عن كل ما سواه
[ ص: 98 ] في جميع الأمور .
وأيضا إن فسرنا البركة بكثرة الآثار الفاضلة فالكل بهذا التفسير من الله تعالى ؛ لأن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته ، والواجب لذاته ليس إلا هو ، وكل ما سواه ممكن ، وكل ممكن فلا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وكل الخيرات منه وكل الكمالات فائضة من وجوده وإحسانه ، فلا خير إلا منه ولا إحسان إلا من فيضه ، ولا رحمة إلا وهي حاصلة منه ، فلما كان الخلق والأمر ليس إلا منه ، لا جرم كان الثناء المذكور بقوله : (
فتبارك الله رب العالمين ) لا يليق إلا بكبريائه وكمال فضله ونهاية جوده ورحمته .
المسألة الثالثة : كون
الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه يحتمل وجوها :
أحدها : أنا قد دللنا في هذا الكتاب العالي الدرجة أن الأجسام متماثلة ، ومتى كان كذلك كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص والضوء الباهر والتسخير الشديد والتأثير القاهر والتدبيرات العجيبة ، في العالم العلوي والسفلي ، لا بد وأن يكون لأجل أن الفاعل الحكيم والمقدر العليم خص ذلك الجسم بهذه الصفات وهذه الأحوال ، فجسم كل واحد من الكواكب والنيرات كالمسخر في قبول تلك القوى والخواص ، عن قدرة المدبر الحكيم ، الرحيم العليم .
وثانيها : أن يقال : أن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيرا خاصا بطيئا من المغرب إلى المشرق وسيرا آخر سريعا بسبب حركة الفلك الأعظم ، فالحق سبحانه خص جرم الفلك الأعظم بقوة سارية في أجرام سائر الأفلاك باعتبارها صارت مستولية عليها قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب ، فأجرام الأفلاك والكواكب صارت كالمسخرة لهذا القهر والقسر .
ولفظ الآية مشعر بذلك لأنه لما ذكر العرش بقوله : (
ثم استوى على العرش ) رتب عليه حكمين :
أحدهما : قوله : (
يغشي الليل النهار ) تنبيها على أن حدوث الليل والنهار إنما يحصل بحركة العرش .
والثاني : قوله : (
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) تنبيها على أن الفلك الأعظم الذي هو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب ، وأنه تعالى أودع في جرم العرش قوة قاهرة باعتبارها قوى على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها ، فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله .
وثانيها : أن أجسام العالم على ثلاثة أقسام ، منها ما هي متحركة إلى الوسط وهي الثقال . ومنها ما هي متحركة عن الوسط ، وهي الخفاف . ومنها ما هي متحركة عن الوسط ، وهي الأجرام الفلكية الكوكبية ، فإنها مستديرة حول الوسط ، فكون الأفلاك والكواكب مستديرة حول مركز الأرض لا عنه ولا إليه ، لا يكون إلا بتسخير الله وتدبيره ، حيث خص كل واحد من هذه الأجسام بخاصة معينة وصفة معينة وقوة مخصوصة ، فلهذا السبب قال : (
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) .
ورابعها : أن الثوابت تتحرك في كل ستة وثلاثين ألف سنة دورة واحدة ، فهذه الحركة تكون في غاية البطء . ثم ههنا دقيقة أخرى وهي أن كل كوكب من الكواكب الثابتة كلما كان أقرب إلى المنطقة كانت حركته أسرع ، وكلما كان أقرب إلى القطب كانت حركته أبطأ ، فالكواكب التي تكون في غاية القرب من القطب ، مثل كوكب الجدي وهو الذي تقول العوام إنه هو القطب ، يدور في دائرة في غاية الصغر ، وهو إنما يتمم تلك الدائرة الصغيرة جدا في مدة ستة وثلاثين ألف سنة .
فإذا تأملت علمت أن تلك الحركة بلغت في البطء إلى حيث لا توجد حركة في العالم تشاركها في البطء ، فذلك الكوكب اختص بأبطأ حركات هذا العالم ، وجرم الفلك الأعظم اختص بأسرع حركات العالم ، وفيما بين هاتين الدرجتين درجات لا نهاية لها في البطء والسرعة ، وكل واحد من الكواكب والدوائر والحوامل والممثلات يختص بنوع من تلك الحركات ، وأيضا فلكل واحد من تلك الكواكب مدارات
[ ص: 99 ] مخصوصة ، فأسرعها هو المنطقة ، وكل ما كان أقرب إليه فهو أسرع حركة مما هو أبعد منه . ثم إنه سبحانه رتب مجموع هذه الحركات على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها سببا لحصول المصالح في هذا العالم ، كما قال في أول سورة البقرة : (
ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ) [البقرة : 29] أي سواهن على وفق مصالح هذا العالم (
وهو بكل شيء عليم ) ، أي هو عالم بجميع المعلومات . فيعلم أنه كيف ينبغي ترتيبها وتسويتها حتى تحصل مصالح هذا العالم ، فهذا أيضا نوع عجيب في تسخير الله تعالى هذه الأفلاك والكواكب ، فتكون داخلة تحت قوله : (
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) .
وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال : إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم ، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين : إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته ، وتقريره من وجوه :
الأول : أن الله تعالى ملأ كتابه من
الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وكيفية أحوال الضياء والظلام ، وأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى ، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزا لما ملأ الله كتابه منها .
والثاني : أنه تعالى قال : (
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) [ق : 6]
فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها ، ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها .
والثالث : أنه تعالى قال : (
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [غافر : 57] فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس ، ثم إنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله : (
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) [الذاريات : 21] فما كان أعلى شأنا وأعظم برهانا منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب .
والرابع :
أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض فقال : (
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ) [آل عمران : 191] ولو كان ذلك ممنوعا منه لما فعل .
والخامس : أن من صنف كتابا شريفا مشتملا على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق ، فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان : منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين ، ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين ، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى .
وأيضا فكل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل .
إذا ثبت هذا فنقول : من الناس من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث ، وكل محدث فله محدث ، فحصل له بهذا الطريق إثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين ، ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث عن أحوال العالم العلوي والعالم السفلي على سبيل التفصيل فيظهر له في كل نوع من أنواع هذا العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة ، فيصير ذلك جاريا مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله ، فلا يزال ينتقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر ، ومن دليل إلى دليل آخر ، فلكثرة الدلائل وتواليها أثر عظيم في تقوية اليقين وإزالة الشبهات . فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه
[ ص: 100 ] الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة ، ونسأل الله العون والعصمة .
المسألة الرابعة : الأمر المذكور في قوله : (
مسخرات بأمره ) قد فسرناه بما سبق ذكره ، وأما المفسرون فلهم فيه وجوه :
أحدها : المراد نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبيين
عظمته وقدرته ، وليس المراد من هذا الأمر الكلام ، ونظيره في قوله تعالى : (
فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [فصلت : 11] وقوله : (
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [النحل : 40] ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الثاني الذي هو الكلام ، وقال : إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة .
المسألة الخامسة : أن
الشمس والقمر من النجوم فذكرهما ثم عطف على ذكرهما ذكر النجوم ، والسبب في إفرادهما بالذكر أنه تعالى جعلهما سببا لعمارة هذا العالم ، والاستقصاء في تقريره لا يليق بهذا الموضع ، فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، والشمس تأثيرها في التسخين والقمر تأثيره في الترطيب ، وتولد المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة .
ثم إنه تعالى خص كل كوكب بخاصة عجيبة وتدبير غريب لا يعرفه بتمامه إلا الله تعالى ، وجعله معينا لهما في تلك التأثيرات ، والمباحث المستقصاة في علم الهيئة تدل على أن الشمس كالسلطان ، والقمر كالنائب ، وسائر الكواكب كالخدم ، فلهذا السبب بدأ الله سبحانه بذكر الشمس وثنى بالقمر ثم أتبعه بذكر سائر النجوم .