صفحة جزء
ثم قال عقيبه : ( إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) ولا شك أن المراد منه إما عذاب يوم القيامة ، وعلى هذا التقدير فهو قد خوفهم بيوم القيامة ، وهذا هو الدعوى الثالثة ، أو عذاب يوم الطوفان ، وعلى هذا التقدير : فقد ادعى الوحي والنبوة من عند الله . والحاصل أنه تعالى حكى عنه أنه ذكر هذه الدعاوى الثلاثة ، ولم يذكر على صحة واحد منها دليلا ولا حجة ، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التقليد ، فهذا باطل ، لما أن القول بالتقليد باطل . وأيضا فالله تعالى قد ملأ القرآن من ذم التقليد ، فكيف يليق بالرسول المعصوم الدعوة إلى التقليد ؟ وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدليل ، فهذا الدليل غير مذكور .

واعلم أنه تعالى ذكر في أول سورة البقرة دلائل التوحيد والنبوة ، وصحة المعاد ، وذلك تنبيه منه تعالى على أن أحدا من الأنبياء لا يدعو أحدا إلى هذه الأصول إلا بذكر الحجة والدليل . أقصى ما في الباب أنه تعالى ما حكى عن نوح تلك الدلائل في هذا المقام إلا أن تلك الدلائل لما كانت معلومة لم يكن إلى ذكرها حاجة في هذا المقام ، فترك الله تعالى ذكر الدلائل لهذا السبب .

الفائدة الثانية : أنه عليه السلام ذكر أولا قوله : ( اعبدوا الله ) وثانيا قوله : ( ما لكم من إله غيره ) والثاني كالعلة للأول ؛ لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلا من الله ، ونهاية الإنعام توجب نهاية التعظيم ، فإنما وجبت عبادة الله لأجل العلم بأنه لا إله إلا الله ، [ ص: 122 ] ويتفرع على هذا البحث مسألة وهي : إنا قبل العلم بأن لا إله واحد أو أكثر من واحد لا نعلم أن المنعم علينا بوجوه النعم الحاصلة عندنا هو هذا أم ذاك ؟ وإذا جهلنا ذلك فقد جهلنا من كان هو المنعم في حقنا ، وحينئذ لا يحسن عبادته ، فعلى هذا القول كان العلم بالتوحيد شرطا للعلم بحسن العبادة .

الفائدة الثالثة في هذه الآية : أن ظاهر هذه الآية يدل على أنه الإله هو الذي يستحق العبادة ؛ لأن قوله : ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) إثبات ونفي ، فيجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام ، فكان المعنى : اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره ، حتى يتطابق النفي والإثبات ، ثم ثبت بالدليل أن الإله ليس هو المعبود ، وإلا لوجب كون الأصنام آلهة ، وأن لا يكون الإله إلها في الأزل لأجل أنه في الأزل غير معبود ، فوجب حمل لفظ الإله على أنه المستحق للعبادة .

واعلم أنهم اختلفوا في معنى قوله : ( إني أخاف عليكم ) هل هو اليقين ، أو الخوف بمعنى الظن والشك ؟ قال قوم : المراد منه الجزم واليقين ؛ لأنه كان جازما بأن العذاب ينزل بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين . وقال آخرون : بل المراد منه الشك وتقريره من وجوه :

الأول : أنه إنما قال : ( إني أخاف عليكم ) لأنه جوز أن يؤمنوا كما جوز أن يستمروا على كفرهم ، ومع هذا التجويز لا يكون قاطعا بنزول العذاب ، فوجب أن يذكره بلفظ الخوف .

والثاني : أن حصول العقاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسمع ، ولعل الله تعالى ما بين له كيفية هذه المسألة ، فلا جرم بقي متوقفا مجوزا أنه تعالى هل يعاقبهم على ذلك الكفر أم لا ؟ .

والثالث : يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر كما قال في الملائكة : ( يخافون ربهم ) [ النحل : 50 ] أي يحذرون المعاصي خوفا من العقاب .

الرابع : أنه بتقدير أن يكون قاطعا بنزول أصل العذاب ، لكنه ما كان عارفا بمقدار ذلك العذاب ، وهو أنه عظيم جدا أو متوسط ، فكان هذا الشك راجعا إلى وصف العقاب ، وهو كونه عظيما أم لا ، لا في أصل حصوله .

ثم إنه تعالى حكى ما ذكره في قومه ، فقال : ( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ) قال المفسرون : " الملأ " الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء ، والدليل عليه أن قوله : ( من قومه ) يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه ، وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف ، وذلك بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المجالس ، وتمتلئ القلوب من هيبتهم ، وتمتلئ الأبصار من رؤيتهم ، وتتوجه العيون في المحافل إليهم ، وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء ، وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر .

وقوله : ( إنا لنراك ) هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية .

وقوله : ( في ضلال مبين ) أي في خطأ ظاهر وضلال بين ، ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بينا أن نوحا عليه السلام ذكرها ، وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد ، ولما ذكروا هذا الكلام أجاب نوح عليه السلام بقوله : ( ياقوم ليس بي ضلالة ) .

فإن قالوا : إن القوم قالوا : ( إنا لنراك في ضلال مبين ) .

فجوابه أن يقال : ليس بي ضلال ، فلم ترك هذا الكلام ، وقال : ليس بي ضلالة ؟

قلت : لأن قوله : ( ليس بي ضلالة ) أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة ، فكان هذا أبلغ في عموم السلب ، ثم إنه عليه السلام لما نفى عن نفسه العيب الذي وصفوه به ، ووصف نفسه بأشرف الصفات [ ص: 123 ] وأجلها ، وهو كونه رسولا إلى الخلق من رب العالمين - ذكر ما هو المقصود من الرسالة ، وهو أمران :

الأول : تبليغ الرسالة .

والثاني : تقرير النصيحة . فقال : ( أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو " أبلغكم " بالتخفيف ، من " أبلغ " ، والباقون بالتشديد . قال الواحدي : وكلا الوجهين جاء في التنزيل ، فالتخفيف قوله : ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ) [ هود : 57 ] والتشديد ( فما بلغت رسالته ) [ المائدة : 67 ] .

المسألة الثانية : الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه : أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه ، وأما النصيحة : فهو أنه يرغبه في الطاعة ، ويحذره عن المعصية ، ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب بأبلغ الوجوه ، وقوله : ( رسالات ربي ) يدل على أنه تعالى حمله أنواعا كثيرة من الرسالة . وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي ، وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ، ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا ، وقوله : ( وأنصح لكم ) قال الفراء : لا تكاد العرب تقول : نصحتك ، إنما تقول : نصحت لك ، ويجوز أيضا نصحتك . قال النابغة :


نصحت بني عوف فلم يتقبلوا رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي



وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه ، والمعنى : أني أبلغ إليكم تكاليف الله ، ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح ، وأدعوكم إلى ما دعاني ، وأحبب إليكم ما أحبه لنفسي .

ثم قال : ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) وفيه وجوه :

الأول : وأعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان .

الثاني : وأعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقابا شديدا خارجا عما تتصوره عقولكم .

الثالث : يجوز أن يكون المراد : وأعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون . ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية