والفرق الخامس : بين القصتين أن
نوحا عليه السلام قال : (
أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ) وأما
هود عليه السلام فقال : (
أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين )
فنوح عليه السلام . قال : (
أنصح لكم ) وهو صيغة الفعل ،
وهود عليه السلام قال : (
وأنا لكم ناصح ) وهو صيغة اسم الفاعل ،
ونوح عليه السلام قال : (
وأعلم من الله ما لا تعلمون )
وهود عليه السلام لم يقل ذلك ، ولكنه زاد فيه كونه أمينا . والفرق بين الصورتين أن الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13990عبد القاهر النحوي ذكر في كتاب دلائل الإعجاز أن صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة ، وأما صيغة اسم الفاعل فإنها دالة على الثبات والاستمرار على ذلك الفعل .
وإذا ثبت هذا فنقول : إن القوم كانوا يبالغون في السفاهة على
نوح عليه السلام ، ثم إنه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى الله ، وقد ذكر الله تعالى عنه ذلك فقال : (
رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ) [ نوح : 5 ] فلما كان
من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، لا جرم ذكره بصيغة الفعل ، فقال : (
وأنصح لكم ) وأما
هود عليه السلام
فقوله : ( وأنا لكم ناصح ) يدل على كونه مثبتا في تلك النصيحة مستقرا فيها . أما ليس فيها إعلام بأنه سيعود إلى ذكرها حالا فحالا ويوما فيوما ، وأما الفرق الآخر في هذه الآية وهو أن
نوحا عليه السلام قال : (
وأعلم من الله ما لا تعلمون )
وهودا وصف نفسه بكونه أمينا ، فالفرق أن
نوحا عليه السلام كان أعلى شأنا وأعظم منصبا في النبوة من هود ، فلم يبعد أن يقال : إن
نوحا كان يعلم من أسرار حكم الله وحكمته ما لم يصل إليه
هود ، فلهذا السبب أمسك
هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة ، واقتصر على أن وصف نفسه بكونه أمينا ، ومقصود منه أمور :
أحدها : الرد عليهم في قولهم : (
وإنا لنظنك من الكاذبين ) .
وثانيها : أن
مدار أمر الرسالة والتبليغ عن الله على الأمانة ، فوصف نفسه بكونه أمينا تقريرا للرسالة والنبوة .
وثالثها : كأنه قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم ، ما وجدتم مني غدرا ولا مكرا ولا كذبا ، واعترفتم لي بكوني أمينا ، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب ؟
واعلم أن الأمين هو الثقة ، وهو فعيل من أمن يأمن أمنا ، فهو آمن وأمين بمعنى واحد .
واعلم أن القوم لما قالوا له : (
إنا لنراك في سفاهة ) فهو لم يقابل سفاهتهم بالسفاهة بل قابلها بالحلم والإغضاء ، ولم يزد على قوله : (
ليس بي سفاهة ) وذلك يدل على أن
ترك الانتقام أولى كما قال : (
وإذا مروا باللغو مروا كراما ) [ الفرقان : 72 ] .
أما قوله : (
ولكني رسول من رب العالمين ) فهو مدح للنفس بأعظم صفات المدح ، وإنما فعل ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام القوم بذلك ، وذلك يدل على أن
مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز .
[ ص: 128 ] والفرق السادس بين القصتين : أن
نوحا عليه السلام قال : (
أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ) وفي قصة
هود أعاد هذا الكلام بعينه إلا أنه حذف منه قوله : (
ولتتقوا ولعلكم ترحمون ) والسبب فيه أنه لما ظهر في القصة الأولى أن
فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة ، وأما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة
هود عليه السلام ، وهو قوله تعالى حكاية عن
هود عليه السلام : (
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) .
واعلم أن الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع ، والمقصود منه أن
تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة والعداوة ، وقد ذكر
هود عليه السلام ههنا نوعين من الإنعام :
الأول : أنه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم
نوح ، وذلك بأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح .
والثاني : قوله : (
وزادكم في الخلق بسطة ) وفيه مباحث :
البحث الأول : "
الخلق " في اللغة عبارة عن التقدير ، فهذا اللفظ إنما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية ، فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم ، ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة ، وذلك لأن القوى والقدر متفاوتة ، فبعضها أعظم وبعضها أضعف .
إذا عرفت هذا فنقول : لفظ الآية يدل على حصول الزيادة ، وأما اعتداد تلك الزيادة فليس في اللفظ البتة ما يدل عليه ، إلا أن العقل يدل على أن تلك الزيادة يجب أن تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد ، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الأنعام فائدة . قال
الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا ، وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا إنسان إذا رفعهما ، ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر ، وقال قوم يحتمل أن يكون المراد من قوله : (
وزادكم في الخلق بسطة ) كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدة والجلادة ، وكون بعضهم محبا للباقين ناصرا لهم ، وزوال العداوة والخصومة من بينهم ، فإنه تعالى لما خصهم بهذه الأنواع من الفضائل والمناقب فقد قرر لهم حصولها ، فصح أن يقال : (
وزادكم في الخلق بسطة ) ولما ذكر هود هذين النوعين من النعمة قال : (
فاذكروا آلاء الله ) وفيه بحثان :
البحث الأول : لا بد في الآية من إضمار ، والتقدير : واذكروا آلاء الله واعملوا عملا يليق بتلك الإنعامات لعلكم تفلحون . وإنما أضمرنا العمل لأن الصلاح الذي هو
الظفر بالثواب لا يحصل بمجرد التذكر ، بل لا بد له من العمل ، واستدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بهذه الآية ، وقالوا : إنه تعالى رتب حصول الصلاح على مجرد التذكر ، فوجب أن يكون مجرد التذكر كافيا في حصول الصلاح . وجوابه ما تقدم من أن سائر الآيات ناطقة بأنه لا بد من العمل . والله أعلم .
البحث الثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : " آلاء الله " أي نعم الله عليكم . قال
الواحدي : واحد الآلاء إلى وألو وإلي . قال
الأعشى :
أبيض لا يرهب الهزال ولا يقطع رحما ولا يخون إلى
قال : نظير الآلاء الآناء ، واحدها : أنا وإنى وإني ، وزاد صاحب " الكشاف " في الأمثلة فقال : ضلع وأضلاع ، وعنب وأعناب .