[ ص: 129 ] (
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين ) .
قوله تعالى : (
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين ) .
اعلم أن
هودا عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدليل القاطع ؛ وذلك لأنه بين أن نعم الله عليهم كثيرة عظيمة ، وصريح العقل يدل على أنه ليس للأصنام شيء من النعم على الخلق لأنها جمادات ، والجماد لا قدرة له على شيء أصلا ، وظاهر أن العبادة نهاية التعظيم ،
ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ، وذلك يدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوا الله ، وأن لا يعبدوا شيئا من الأصنام ، ومقصود الله تعالى من ذكر أقسام إنعامه على العبيد ، هذه الحجة التي ذكرها . ثم إن
هودا عليه السلام لما ذكر هذه الحجة اليقينية لم يكن من القوم جواب عن هذه الحجة التي ذكرها إلا التمسك بطريقة التقليد ، فقالوا : (
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ) ثم قالوا : (
فأتنا بما تعدنا ) وذلك لأنه عليه السلام قال : (
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ) فقوله : (
أفلا تتقون ) مشعر
بالتهديد والتخويف بالوعيد ، فلهذا المعنى قالوا : (
فأتنا بما تعدنا ) وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعتقدون كونه كاذبا بدليل أنهم قالوا له : (
وإنا لنظنك من الكاذبين ) فلما اعتقدوا كونه كاذبا قالوا له : (
فأتنا بما تعدنا ) والغرض أنه إذا لم يأتهم بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذبا ، وإنما قالوا ذلك لأنهم ظنوا أن الوعد لا يجوز أن يتأخر ، فلا جرم استعجلوه على هذا الحد .
ثم حكى الله تعالى عن
هود عليه السلام أنه قال عند هذا الكلام : (
قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الذي أخبر الله عنه بأنه وقع لا يجوز أن يكون هو العذاب ؛ لأن العذاب ما كان حاصلا في ذلك الوقت ، وقد اختلفوا فيه ، قال القاضي : تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر ، إلا أنا نقول : معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت ، لا أن بعد كفرهم وتكذيبهم حدثت هذه الإرادة . واعلم أن هذا القول عندنا باطل ، بل عندنا في الآية وجوه من التأويلات :
أحدها : أنه تعالى أخبره في ذلك الوقت بنزول
[ ص: 130 ] العذاب عليهم ، فلما حدث الإعلام في ذلك الوقت لا جرم قال
هود في ذلك الوقت : (
وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ) .
وثانيها : أنه جعل التوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع . ونظيره قولك لمن طلب منك شيئا : قد كان ذلك ؛ بمعنى أنه سيكون ، ونظيره قوله تعالى : (
أتى أمر الله ) بمعنى : سيأتي أمر الله .
وثالثها : أنا نحمل قوله : (
وقع ) على معنى وجد وحصل ، والمعنى : إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل إلى الأبد ؛ لأن قولنا : حصل ، لا إشعار له بالحدوث بعد ما لم يكن .
المسألة الثانية : الرجس لا يمكن أن يكون المراد منه العذاب ؛ لأن المراد من الغضب العذاب ، فلو حملنا الرجس عليه لزم التكرير ، وأيضا الرجس ضد التزكية والتطهير . قال تعالى : (
تطهرهم وتزكيهم بها ) [ التوبة : 103 ] وقال في صفة أهل البيت : (
ويطهركم تطهيرا ) [ الأحزاب : 33 ] والمراد التطهر من العقائد الباطلة والأفعال المذمومة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون
الرجس عبارة عن العقائد الباطلة والأفعال المذمومة .
إذا ثبت هذا فقوله : (
قد وقع عليكم من ربكم رجس ) يدل على أنه تعالى خصهم بالعقائد المذمومة والصفات القبيحة ، وذلك يدل على أن
الخير والشر من الله تعالى ، قال
القفال : يجوز أن يكون الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب ، كقوله تعالى : (
فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) [ التوبة : 125 ] أي قد وقع عليكم من الله رين على قلوبكم عقوبة منه لكم بالخذلان لإلفكم الكفر وتماديكم في الغي .
واعلم أنا قد دللنا على أن هذه الآية تدل على أن كفرهم من الله ، فهذا الذي قاله
القفال إن كان المراد منه ذلك ، فقد جاء بالوفاق ، إلا أنه شديد النفرة عن هذا المذهب ، وأكثر تأويل الآيات الدالة على هذا المذهب تدل على أنه لا يقول بهذا القول . وإن كان المراد منه الجواب عما شرحناه ، فهو ضعيف لأنه ليس فيه ما يوجب رفع الدليل الذي ذكرناه ، والله أعلم .
وحاصل الكلام في الآية : أن القوم لما أصروا على التقليد وعدم الانقياد للدليل زادهم الله كفرا ، وهو المراد من قوله : (
قد وقع عليكم من ربكم رجس ) ثم خصهم بمزيد الغضب ، وهو قوله : (
وغضب ) .
ثم قال : (
أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ) والمراد منه : الاستفهام على سبيل الإنكار ، وذلك لأنهم كانوا
يسمون الأصنام بالآلهة ، مع أن معنى الإلهية فيها معدوم ، وسموا واحدا منها بالعزى مشتقا من العز ، والله ما أعطاه عزا أصلا ، وسموا آخر منها باللات ، وليس له من الإلهية شيء . وقوله : (
ما نزل الله بها من سلطان ) عبارة عن
خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة ، ثم إنه عليه السلام ذكر لهم وعيدا مجددا فقال : ( فانتظروا ) ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام (
إني معكم من المنتظرين ) .
ثم إنه تعالى أخبر عن عاقبة هذه الواقعة ، فقال : (
فأنجيناه والذين معه برحمة منا ) إذ كانوا مستحقين للرحمة بسبب إيمانهم ، وقطعنا دابر الذين كذبوا بالآيات التي جعلناها معجزة لهود ، والمراد أنه تعالى
أنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي هو الريح ، وقد بين الله كيفيته في غير هذا الموضع ، وقطع الدابر هو الاستئصال ، فدل بهذا اللفظ أنه تعالى ما أبقى منهم أحدا ، ودابر الشيء آخره .
[ ص: 131 ] فإن قيل : لما أخبر عنهم بأنهم كانوا مكذبين بآيات الله لزم القطع بأنهم ما كانوا مؤمنين ، فما الفائدة في قوله بعد ذلك : (
وما كانوا مؤمنين ) ؟ .
قلنا : معناه أنهم مكذبون ، وعلم الله منهم أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضا ، ولو علم تعالى أنهم سيؤمنون لأبقاهم .
(
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء ، فيأخذكم عذاب أليم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) .