[ ص: 134 ] (
قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ) .
قوله تعالى : (
قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ) .
اعلم أنا ذكرنا أن الملأ عبارة عن القوم الذين تمتلئ القلوب من هيبتهم ، ومعنى الآية : قال الملأ وهم الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا ، يريد المساكين الذين آمنوا به ، وقوله : (
لمن آمن منهم ) بدل من قوله : (
للذين استضعفوا ) لأنهم المؤمنون . واعلم أنه
وصف أولئك الكفار بكونهم مستكبرين ، ووصف أولئك المؤمنين بكونهم مستضعفين ، وكونهم مستكبرين فعل استوجبوا به الذم ، وكون المؤمنين مستضعفين معناه : أن غيرهم يستضعفهم ويستحقرهم ، وهذا ليس فعلا صادرا عنهم ، بل عن غيرهم ، فهو لا يكون صفة ذم في حقهم ، بل الذم عائد إلى الذين يستحقرونهم ويستضعفونهم . ثم حكى تعالى أن هؤلاء المستكبرين سألوا المستضعفين عن حال
صالح ، فقال المستضعفون : نحن موقنون مصدقون بما جاء به
صالح . وقال المستكبرون : بل نحن كافرون بما جاء به
صالح ، وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن
الفقر خير من الغنى ؛ وذلك لأن
الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه ، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما ، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد ، والإباء ، والإنكار ، والكفر . وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان ، والتصديق ، والانقياد ، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى .
ثم قال تعالى : (
فعقروا الناقة ) قال
الأزهري :
العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ، ولما كان العقر سببا للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقا لاسم السبب على المسبب . واعلم أنه أسند العقر إلى جميعهم ؛ لأنه كان برضاهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم ، وقد يقال للقبيلة العظيمة : أنتم فعلتم كذا ، مع أنه ما فعله إلا واحد منهم .
ثم قال : (
وعتوا عن أمر ربهم ) يقال : عتا يعتو عتوا ، إذا استكبر . ومنه يقال : جبار عات ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد :
[ ص: 135 ] العتو : الغلو في الباطل . وفي قوله : (
عن أمر ربهم ) وجهان :
الأول : معناه : استكبروا عن امتثال أمر ربهم ، وذلك الأمر هو الذي أوصله الله إليهم على لسان
صالح عليه السلام ، وهو قوله : (
فذروها تأكل في أرض الله ) .
الثاني : أن يكون المعنى : وصدر عتوهم عن أمر ربهم ، فكأن أمر ربهم بتركها صار سببا في إقدامهم على ذلك العتو ، كما يقال : الممنوع متبوع (
وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ) وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين له في كل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد .
ثم قال تعالى : (
فأخذتهم الرجفة ) قال
الفراء والزجاج : هي الزلزلة الشديدة ، قال تعالى : (
يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) [ المزمل : 14 ] قال
الليث : يقال : رجف الشيء يرجف رجفا ورجفانا ، كرجفان البعير تحت الرحل ، وكما يرجف الشجر إذا أرجفته الريح .
ثم قال : (
فأصبحوا في دارهم جاثمين ) يعني في بلدهم ؛ ولذلك وحد الدار ، كما يقال : دار الحرب ، ومررت بدار البزازين ، وجمع في آية أخرى فقال : (
في ديارهم ) [ هود : 67 ] لأنه أراد بالدار ما لكل واحد منهم من منزله الخاص به . وقوله : (
جاثمين ) قال
أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل ، فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل ، والمعنى : أنهم أصبحوا جاثمين خامدين لا يتحركون موتى ، يقال : الناس جثم ، أي قعود لا حراك بهم ولا يحسون بشيء ، ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها ، وهي البهيمة التي تربط لترمى ، فثبت أن الجثوم عبارة عن السكون والخمود ، ثم اختلفوا ، فمنهم من قال : لما سمعوا الصيحة العظيمة تقطعت قلوبهم وماتوا جاثمين على الركب ، وقيل : بل سقطوا على وجوههم ، وقيل : وصلت الصاعقة إليهم فاحترقوا وصاروا كالرماد . وقيل : بل عند
نزول العذاب عليهم سقط بعضهم على بعض ، والكل متقارب . وههنا سؤالات :
السؤال الأول : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا : (
ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ) قال تعالى : (
فأخذتهم الرجفة ) والفاء للتعقيب ، وهذا يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنه تعالى قال في آية أخرى : (
فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) [ هود : 65 ] .
والجواب : أن
الذي يحصل عقيب الشيء بمدة قليلة قد يقال فيه إنه حصل عقيبه فزال السؤال .
السؤال الثاني : طعن قوم من الملحدين في هذه الآيات بأن ألفاظ القرآن قد اختلفت في حكاية هذه الواقعة ، وهي
الرجفة والطاغية والصيحة ، وزعموا أن ذلك يوجب التناقض .
والجواب : قال
أبو مسلم : الطاغية اسم لكل ما تجاوز حده سواء كان حيوانا أو غير حيوان وألحق الهاء به للمبالغة ، فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت . وقال تعالى : (
إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ العلق : 6 ، 7 ] ويقال : طغى طغيانا ، وهو طاغ وطاغية . وقال تعالى : (
كذبت ثمود بطغواها ) [ الشمس : 11 ] وقال في غير الحيوان : (
إنا لما طغى الماء ) [ الحاقة : 11 ] أي غلب وتجاوز عن الحد ، وأما الرجفة ، فهي الزلزلة في الأرض ، وهي حركة خارجة عن المعتاد ، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها ، وأما الصيحة ، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة . وأما الصاعقة فالغالب أنها الزلزلة ، وكذلك الزجرة قال تعالى : (
فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ) [ النازعات : 13 ، 14 ] فبطل ما قاله الطاعن .
[ ص: 136 ] السؤال الثالث : أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة من الصخرة وذلك معجزة قاهرة تقرب حال المكلفين عند مشاهدة هذه المعجزة من الإلجاء ، وأيضا شاهدوا أن الماء الذي كان شربا لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين كان شربا لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني ، وذلك أيضا معجزة قاهرة ، ثم إن القوم لما نحروها ، وكان
صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن نحروها ، فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب ، وهو ما يروى أنهم احمروا في اليوم الأول ، ثم اصفروا في اليوم الثاني ، ثم اسودوا في اليوم الثالث ، فمع مشاهدة تلك المعجزات القاهرة في أول الأمر ، ثم شاهدوا نزول العذاب الشديد في آخر الأمر ، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مصرا على كفره غير تائب منه ؟
والجواب الأولى أن يقال : إنهم
قبل أن شاهدوا تلك العلامات كانوا يكذبون صالحا في نزول العذاب ، فلما شاهدوا العلامات خرجوا عند ذلك عن حد التكليف ، وخرجوا عن أن تكون توبتهم مقبولة .
ثم قال تعالى : (
فتولى عنهم ) وفيه قولان :
الأول : أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا ، والدليل عليه أنه تعالى قال : (
فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم ) والفاء تدل على التعقيب ، فدل على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم .
والثاني : أنه عليه السلام تولى عنهم قبل موتهم ، بدليل : أنه خاطب القوم وقال : (
ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ) وذلك يدل على كونهم أحياء من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قال لهم : ( يا قوم ) والأموات لا يوصفون بالقوم ؛ لأن اشتقاق لفظ القوم من الاستقلال بالقيام ، وذلك في حق الميت مفقود .
والثاني : أن هذه الكلمات خطاب مع أولئك وخطاب الميت لا يجوز .
والثالث : أنه قال : (
ولكن لا تحبون الناصحين ) فيجب أن يكونوا بحيث يصح حصول المحبة فيهم .
ويمكن أن يجاب عنه فنقول :
قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه فلم يقبل تلك النصيحة حتى ألقى نفسه في الهلاك : يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل ، وكم منعتك فلم تمتنع ، فكذا ههنا ، والفائدة في ذكر هذا الكلام إما لأن يسمعه بعض الأحياء ، فيعتبر به وينزجر عن مثل تلك الطريقة . وإما لأجل أنه احترق قلبه بسبب تلك الواقعة ، فإذا ذكر ذلك الكلام فرجت تلك القضية عن قلبه ، وقيل : يخف عليه أثر تلك المصيبة . وذكروا جوابا آخر ، وهو : أن
صالحا عليه السلام خاطبهم بعد كونهم جاثمين كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر ، فقيل : تتكلم مع هؤلاء الجيف ؟ فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012689ما أنتم بأسمع منهم لكنهم لا يقدرون على الجواب " .