(
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ) .
[ ص: 141 ] قوله تعالى : (
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ) .
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة ، وقد ذكرنا أن التقدير : " وأرسلنا إلى
مدين أخاهم
شعيبا " وذكرنا أن هذه الأخوة كانت في النسب لا في الدين ، وذكرنا الوجوه فيه ، واختلفوا في
مدين ، فقيل : أنه اسم البلد ، وقيل : إنه اسم القبيلة بسبب أنهم أولاد
مدين بن إبراهيم عليه السلام ،
ومدين صار اسما للقبيلة ، كما يقال : بكر وتميم . وشعيب من أولاده وهو :
شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن .
واعلم أنه تعالى حكى عن
شعيب أنه أمر قومه في هذه الآية بأشياء :
الأول : أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله ، وهذا
أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء ، فقال : (
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) .
والثاني : أنه ادعى النبوة فقال : (
قد جاءتكم بينة من ربكم ) ويجب أن يكون المراد من البينة ههنا المعجزة ؛ لأنه لا بد لمدعي النبوة منها ، وإلا لكان متنبئا لا نبيا ، فهذه الآية دلت على أنه
حصلت له معجزة دالة على صدقه . فأما أن تلك المعجزة من أي الأنواع كانت فليس في القرآن دلالة عليه ، كما
لم يحصل في القرآن الدلالة على كثير من معجزات رسولنا .
قال صاحب " الكشاف " : ومن
معجزات شعيب : أنه دفع إلى
موسى عصاه ، وتلك العصا حاربت التنين ، وأيضا قال
لموسى : إن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد وبياض ، وقد وهبتها منك ، فكان الأمر كما أخبر عنه . ثم قال : وهذه الأحوال كانت معجزات
لشعيب عليه السلام ؛ لأن
موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة .
واعلم أن هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين أصحابنا وبين
المعتزلة ، وذلك لأن عندنا أن الذي يصير نبيا ورسولا بعد ذلك يجوز أن يظهر الله عليه أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي ، ويسمى ذلك
إرهاصا للنبوة ، فهذا الإرهاص عندنا جائز ، وعند
المعتزلة غير جائز ، فالأحوال التي حكاها صاحب " الكشاف " هي عندنا إرهاصات
لموسى عليه السلام ، وعند
المعتزلة معجزات
لشعيب لما أن الإرهاص عندهم غير جائز .
والثالث : أنه قال : (
فأوفوا الكيل والميزان ) .
واعلم أن عادة الأنبياء عليهم السلام إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالا أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدءوا بمنعهم عن ذلك النوع ،
وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف ، فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة فقال : (
فأوفوا الكيل والميزان ) وههنا سؤالان :
السؤال الأول : الفاء في قوله : (
فأوفوا ) توجب أن تكون للأمر بإيفاء الكيل كالمعلول والنتيجة عما سبق ذكره وهو قوله : (
قد جاءتكم بينة من ربكم ) فكيف الوجه فيه ؟
والجواب : كأنه يقول :
البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشيء القليل ، وهو أمر مستقبح في العقول ، ومع ذلك قد جاءت البينة والشريعة الموجبة للحرمة ، فلم يبق لكم فيه عذر (
فأوفوا الكيل ) .
السؤال الثاني : كيف قال : " الكيل والميزان " ولم يقل : " المكيال والميزان " كما في سورة
هود ؟
والجواب : أراد بالكيل آلة الكيل ، وهو المكيال ، أو يسمى ما يكال به بالكيل ، كما يقال : العيش ، لما
[ ص: 142 ] يعاش به .
والرابع : قوله : (
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) والمراد أنه
لما منع قومه من البخس في الكيل والوزن منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه ، ويدخل فيه المنع من الغصب ، والسرقة ، وأخذ الرشوة ، وقطع الطريق . وانتزاع الأموال بطريق الحيل .
والخامس : قوله : (
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) وذلك لأنه لما كان
أخذ أموال الناس بغير رضاها يوجب المنازعة والخصومة ، وهما يوجبان الفساد ، لا جرم قال بعده : (
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) وقد سبق تفسير هذه الكلمة ، وذكروا فيه وجوها فقيل : (
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) بأن تقدموا على البخس في الكيل والوزن ؛ لأن ذلك يتبعه الفساد . وقيل : أراد به المنع من كل ما كان فسادا حملا للفظ على عمومه . وقيل : قوله : (
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) منع من مفاسد الدنيا .
وقوله : (
ولا تفسدوا في الأرض ) منع من مفاسد الدين حتى تكون الآية جامعة
للنهي عن مفاسد الدنيا والدين ، واختلفوا في معنى (
بعد إصلاحها ) قيل : بعد أن صلحت الأرض بمجيء النبي بعد أن كانت فاسدة بخلوها منه ، فنهاهم عن الفساد ، وقد صارت صالحة . وقيل : المراد أن لا تفسدوا بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيهم ، وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين : التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة ، والشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الإفساد ، وحاصلها يرجع إلى ترك الإيذاء ، كأنه تعالى يقول : إيصال النفع إلى الكل متعذر . وأما كف الشر عن الكل فممكن ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الخمسة قال : ( ذلكم ) وهو إشارة إلى هذه الخمسة ، والمعنى : خير لكم في الآخرة إن كنتم مؤمنين بالآخرة ، والمراد : ترك البخس وترك الإفساد خير لكم في طلب المال في المعنى ؛ لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة رغبوا في المعاملات معكم ، فكثرت أموالكم (
إن كنتم مؤمنين ) أي إن كنتم مصدقين لي في قولي .