(
وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) .
قوله تعالى : (
وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) .
في الآية مسائل :
[ ص: 168 ] المسألة الأولى : قال المفسرون : إن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلاثمائة بعير ، فلما ابتلعها ثعبان
موسى عليه السلام وصارت عصا كما كانت ، قال بعض السحرة لبعض : هذا خارج عن السحر ، بل هو أمر إلهي ، فاستدلوا به على أن
موسى عليه السلام نبي صادق من عند الله تعالى ، قال المتكلمون : وهذه الآية من أعظم الدلائل على
فضيلة العلم ؛ وذلك لأن أولئك الأقوام كانوا عالمين بحقيقة السحر واقفين على منتهاه ، فلما كانوا كذلك ووجدوا معجزة
موسى عليه السلام خارجة عن حد السحر - علموا أنه من المعجزات الإلهية ، لا من جنس التمويهات البشرية . ولو أنهم ما كانوا كاملين في علم السحر لما قدروا على ذلك الاستدلال ؛ لأنهم كانوا يقولون : لعله أكمل منا في علم السحر فقدر على ما عجزنا عنه ، فثبت أنهم كانوا كاملين في علم السحر . فلأجل كمالهم في ذلك العلم انتقلوا من الكفر إلى الإيمان . فإذا كان حال علم السحر كذلك ، فما ظنك بكمال حال الإنسان في علم التوحيد .
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله تعالى : (
وألقي السحرة ساجدين ) قالوا : دلت هذه الآية على أن غيرهم ألقاهم ساجدين ، وما ذاك إلا الله رب العالمين . فهذا يدل على أن
فعل العبد خلق الله تعالى . قال
مقاتل : ألقاهم الله تعالى ساجدين . وقال
المعتزلة : الجواب عنه من وجوه :
الأول : أنهم لما شاهدوا الآيات العظيمة والمعجزات القاهرة لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين ، فصار كأن ملقيا ألقاهم .
الثاني : قال
الأخفش : من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم ؛ لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين .
الثالث : أنه ليس في الآية أنه ألقاهم ملق إلى السجود ، إلا أنا نقول : إن ذلك الملقي هو أنفسهم .
والجواب : أن خالق تلك الداعية في قلوبهم هو الله تعالى ، وإلا لافتقروا في خلق تلك الداعية الجازمة إلى داعية أخرى ، ولزم التسلسل وهو محال . ثم إن أصل تلك القدرة مع تلك الداعية الجازمة تصير موجبة للفعل . وخالق ذلك الموجب هو الله تعالى ، فكان ذلك الفعل والأثر مسندا إلى الله تعالى ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر أولا أنهم صاروا ساجدين ، ثم ذكر بعده أنهم قالوا : (
آمنا برب العالمين ) فما الفائدة فيه مع أن
الإيمان يجب أن يكون متقدما على السجود ؟ وجوابه من وجوه :
الأول : أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال ، وجعلوا ذلك السجود شكرا لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان ، وعلامة أيضا على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهار الخضوع والتذلل لله تعالى ، فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع .
الوجه الثاني : لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا : (
آمنا برب العالمين ) وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل . والوجه الصحيح هو الأول .
المسألة الرابعة : احتج أهل التعليم بهذه الآية فقالوا : الدليل على أن
معرفة الله لا تحصل إلا بقول النبي - أن أولئك السحرة لما قالوا : (
آمنا برب العالمين ) لم يتم إيمانهم ، فلما قالوا : (
رب موسى وهارون ) تم إيمانهم ، وذلك يدل على قولنا .
وأجاب العلماء عنه : بأنهم لما قالوا : (
آمنا برب العالمين ) قال لهم فرعون إياي تعنون ؟ فلما قالوا : (
رب موسى ) قال إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت
موسى ؟ فلما قالوا : (
وهارون ) زالت الشبهة ، وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء . وقيل : إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين ؛ لأن التقدير : آمنا
[ ص: 169 ] برب العالمين وهو الذي دعا إلى الإيمان به
موسى وهارون . وقيل : خصهما بالذكر تفضيلا وتشريفا كقوله : (
وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) [ البقرة : 98 ] .