(
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين ) .
قوله تعالى : (
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين ) .
[ ص: 193 ] اعلم أنه تعالى لما بين أنه
خص موسى عليه السلام بالرسالة ذكر في هذه الآية تفصيل تلك الرسالة ، فقال : (
وكتبنا له في الألواح ) نقل صاحب " الكشاف " عن بعضهم : أن
موسى خر صعقا يوم
عرفة ، وأعطاه الله تعالى التوراة يوم النحر ، وذكروا في عدد الألواح ، وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح . وقيل : سبعة . وقيل : إنها كانت من زمردة جاء بها
جبريل عليه السلام . وقيل : من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء . وقال
الحسن : كانت من خشب نزلت من السماء . وقال
وهب : كانت من صخرة صماء لينها الله
لموسى عليه السلام ، وأما كيفية الكتابة فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : كتبها
جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور .
واعلم أنه ليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح ، وعلى كيفية تلك الكتابة ، فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قوي ، وجب القول به ، وإلا وجب السكوت عنه .
وأما قوله : (
من كل شيء ) فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم ، بل المراد من كل ما يحتاج إليه
موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح .
وأما قوله : (
موعظة وتفصيلا لكل شيء ) فهو كالبيان للجملة التي قدمها بقوله : (
من كل شيء ) وذلك لأنه تعالى قسمه إلى ضربين :
أحدهما : " موعظة " والآخر " تفصيلا " لما يجب أن يعلم من الأحكام ، فيدخل في
الموعظة كل ما ذكره الله تعالى من الأمور التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية ، وذلك بذكر الوعد والوعيد ، ولما قرر ذلك أولا أتبعه بشرح أقسام الأحكام وتفصيل الحلال والحرام ، فقال : (
وتفصيلا لكل شيء ) ولما شرح ذلك قال
لموسى : (
فخذها بقوة ) أي بعزيمة قوية ونية صادقة ، ثم أمره الله تعالى أن يأمر قومه بأن يأخذوا بأحسنها ، وظاهر ذلك أن بين التكليفين فرقا ؛ ليكون في هذا التفصيل فائدة ؛ ولذلك قال بعض المفسرين : إن التكليف كان على
موسى عليه السلام أشد ؛ لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره ، وقال بعضهم : بل خصه من حيث كلفه البلاغ والأداء ، وإن كان مشاركا لقومه فيما عداه .
وفي قوله : (
وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) سؤال : وهو أنه تعالى لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأمورا به ، وظاهر قوله : (
يأخذوا بأحسنها ) يقتضي أن فيه ما ليس بأحسن ، وأنه لا يجوز لهم الأخذ به ، وذلك متناقض ، وذكر العلماء في الجواب عنه وجوها :
الأول : أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن ، كالقصاص ، والعفو ، والانتصار ، والصبر ، أي فمرهم أن يحملوا أنفسهم على الأخذ بما هو أدخل في الحسن ، وأكثر للثواب ، كقوله : (
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم ) [ الزمر : 55 ] وقوله : (
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [ الزمر : 18 ] .
فإن قالوا : فلما أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن ، فقد منع من الأخذ بذلك الحسن ، وذلك يقدح في كونه حسنا . فنقول يحمل أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن على الندب حتى يزول هذا التناقض .
الوجه الثاني في الجواب : قال
قطرب (
يأخذوا بأحسنها ) أي بحسنها وكلها حسن ؛ لقوله تعالى : (
ولذكر الله أكبر ) [ العنكبوت : 45 ] وقول
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق :
بيتا دعائمه أعز وأطول
الوجه الثالث : قال بعضهم : الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح ، وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات .
[ ص: 194 ] وأما قوله : (
سأريكم دار الفاسقين ) ففيه وجهان :
الأول : أن المراد
التهديد والوعيد على مخالفة أمر الله تعالى ، وعلى هذا التقدير فيه وجهان :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس والحسن nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد : دار الفاسقين هي جهنم ، أي فليكن ذكر جهنم حاضرا في خاطركم ؛ لتحذروا أن تكونوا منهم .
والثاني : قال
قتادة : سأدخلكم
الشام وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها وما صاروا إليه من النكال .
وقال
الكلبي : (
دار الفاسقين ) هي المساكن التي كانوا يمرون عليها إذا سافروا من منازل
عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله تعالى .
والقول الثاني : أن المراد الوعد والبشارة بأنه تعالى سيورثهم أرض أعدائهم وديارهم . والله أعلم .