بقي في لفظ الآية سؤالات :
السؤال الأول : لم قيل :(
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا ) والمتخذ هو
السامري وحده ؟
والجواب فيه وجهان :
الأول : أن الله نسب الفعل إليهم ؛ لأن رجلا منهم باشره كما يقال : بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا ، والقائل والفاعل واحد .
والثاني : أنهم كانوا مريدين لاتخاذه ، راضين به ، فكأنهم اجتمعوا عليه .
السؤال الثاني : لم قال :(
من حليهم ) ولم يكن الحلي لهم ، وإنما حصل في أيديهم على سبيل العارية ؟
والجواب : أنه تعالى لما أهلك
قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ، وصارت ملكا لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى :(
كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين ) [ الدخان : 25 - 28 ]
السؤال الثالث : هؤلاء
الذين عبدوا العجل هم كل قوم موسى أو بعضهم ؟
والجواب : أن قوله تعالى :(
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا ) يفيد العموم . قال
الحسن :
[ ص: 7 ] كلهم عبدوا العجل غير
هارون . واحتج عليه بوجهين :
الأول : عموم هذه الآية .
والثاني : قول
موسى - عليه السلام - في هذه القصة(
رب اغفر لي ولأخي ) [الأعراف : 151] قال خص نفسه وأخاه بالدعاء ، وذلك يدل على أن من كان مغايرا لهما ما كان أهلا للدعاء ، ولو بقوا على الإيمان لما كان الأمر كذلك ، وقال آخرون : بل كان قد بقي في
بني إسرائيل من ثبت على إيمانه ، فإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم مخصوصين ، والدليل عليه قوله تعالى :(
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : 159 ] .
السؤال الرابع : هل انقلب ذلك التمثال لحما ودما على ما قاله بعضهم أو بقي ذهبا كما كان قبل ذلك ؟
والجواب : الذاهبون إلى الاحتمال الأول احتجوا على صحة قولهم بوجهين :
الأول : قوله تعالى :(
عجلا جسدا له خوار ) والجسد اسم للجسم الذي يكون من اللحم والدم ، ومنهم من نازع في ذلك ، وقال بل الجسد اسم لكل جسم كثيف ، سواء كان من اللحم والدم أو لم يكن كذلك .
والحجة الثانية : أنه تعالى أثبت له خوارا ، وذلك إنما يتأتى في الحيوان . وأجيب عنه : بأن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لم يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه ، وقرأ
علي رضي الله عنه : ( جؤار ) بالجيم والهمزة ، من جأر إذا صاح ، فهذا ما قيل في هذا الباب .
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا المذهب والمقالة احتج على
فساد كون ذلك العجل إلها بقوله :(
ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ) وتقرير هذا الدليل أن هذا العجل لا يمكنه أن يكلمهم ، ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد ، وكل من كان كذلك كان إما جمادا وإما حيوانا عاجزا ، وعلى التقديرين فإنه لا يصلح للإلهية ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن من لا يكون متكلما ولا هاديا إلى سبيل لم يكن إلها ؛ لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي ، وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلما ، فمن لا يكون متكلما لم يصح منه الأمر والنهي ، والعجل عاجز عن الأمر والنهي فلم يكن إلها . وقالت
المعتزلة : هذه الآية تدل على أن شرط كونه إلها أن يكون هاديا إلى الصدق والصواب ، فمن كان مضلا عنه وجب أن لا يكون إلها .
فإن قيل : فهذا يوجب أنه لو صح أن يتكلم ويهدي ، يجوز أن يتخذ إلها ، وإلا فإن كان إثبات ذلك كنفيه في أنه لا يجوز أن يتخذ إلها فلا فائدة فيما ذكرتم .
والجواب من وجهين :
الأول : لا يبعد أن يكون ذلك شرطا لحصول الإلهية ، فيلزم من عدمه عدم الإلهية وإن كان لا يلزم من حصوله حصول الإلهية .
الثاني : أن كل من قدر على أن يكلمهم وعلى أن يهديهم إلى الخير والشر فهو إله ، والخلق لا يقدرون على الهداية ، إنما يقدرون على وصف الهداية ، فأما على وضع الدلائل ونصبها فلا قادر عليه إلا الله سبحانه وتعالى .
واعلم أنه ختم الآية بقوله :(
وكانوا ظالمين ) أي كانوا ظالمين لأنفسهم حيث
أعرضوا عن عبادة الله تعالى ، واشتغلوا بعبادة العجل . والله أعلم .