أما قوله تعالى : (
الذين كفروا ) ففيه مسائل :
) المسألة الأولى ) : اعلم أنه صعب على المتكلمين ذكر
حد الكفر ، وتحقيق القول فيه : أن كل ما ينقل عن
محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه وقال به فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة أو بالاستدلال أو بخبر الواحد . أما القسم الأول : وهو الذي عرف بالضرورة مجيء الرسول عليه السلام به فمن صدقه في كل ذلك فهو مؤمن ، ومن لم يصدقه في ذلك ، فإما بأن لا يصدقه في جميعها ، أو بأن لا يصدقه في البعض دون البعض ، فذلك هو الكافر ، فإذن
الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة مجيئه به ، ومثاله من
أنكر وجود الصانع ، أو كونه عالما قادرا مختارا ، أو كونه واحدا ، أو كونه منزها عن النقائص والآفات ، أو
أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو صحة القرآن الكريم ، أو
أنكر الشرائع التي علمنا بالضرورة كونها من دين محمد صلى الله عليه وسلم كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر ، فذلك يكون كافرا ؛ لأنه ترك تصديق الرسول فيما علم بالضرورة أنه من دينه . فأما الذي عرف بالدليل أنه من دينه مثل كونه عالما بالعلم أو لذاته ، وأنه مرئي أو غير مرئي ، وأنه خالق أعمال العباد أم لا ، فلم ينقل بالتواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السلام بأحد القولين دون الثاني ، بل إنما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثاني بالاستدلال ، فلا جرم لم يكن إنكاره ولا الإقرار به داخلا في ماهية الإيمان فلا يكون موجبا للكفر ، والدليل عليه أنه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه هل يعرف الحق في تلك المسألة ، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمة ، ولنقل ذلك على سبيل التواتر ، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه السلام ما وقف الإيمان عليها ، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان ، ولا إنكارها موجبا للكفر ، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمة ، ولا نكفر أرباب التأويل .
[ ص: 36 ] وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد فظاهر أنه لا يمكن توقف الكفر والإيمان عليه . فهذا قولنا في حقيقة الكفر ، فإن قيل : يبطل ما ذكرتم من جهة العكس بلبس الغيار وشد الزنار وأمثالهما ، فإنه كفر مع أن ذلك شيء آخر سوى ترك تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما علم بالضرورة مجيئه به ، قلنا : هذه الأشياء في الحقيقة ليست كفرا لأن التصديق وعدمه أمر باطن لا اطلاع للخلق عليه ، ومن عادة الشرع أنه لا يبني الحكم في أمثال هذه الأمور على نفس المعنى ، لأنه لا سبيل إلى الاطلاع ، بل يجعل لها معرفات وعلامات ظاهرة ، ويجعل تلك المظان الظاهرة مدارا للأحكام الشرعية ، وليس الغيار وشد الزنار من هذا الباب ، فإن الظاهر أن من يصدق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال ، فحيث أتى بها دل على عدم التصديق ، فلا جرم الشرع يفرع الأحكام عليها ، لا أنها في أنفسها كفر ، فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب ، والله أعلم .