صفحة جزء
المسألة الثانية : قوله : ( إن الذين كفروا ) إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي ، والإخبار عن الشيء بصيغة الماضي يقتضي كون المخبر عنه متقدما على ذلك الإخبار ، إذا عرفت هذا فنقول : احتجت المعتزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماض مثل قوله : ( إن الذين كفروا ) أو ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [الحجر : 9] ، ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [القدر : 1] ، ( إنا أرسلنا نوحا ) [نوح : 1] على أن كلام الله محدث سواء كان الكلام هذه الحروف والأصوات ، أو كان شيئا آخر . قالوا : لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقا إلا إذا كان مسبوقا بالخبر عنه ، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقا بالغير ، فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديما ، فيجب أن يكون محدثا ، أجاب القائلون بقدم الكلام عنه من وجهين : الأول : أن الله تعالى كان في الأزل عالما بأن العالم سيوجد ، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علما بأنه قد حدث في الماضي ولم يلزم حدوث علم الله تعالى ، فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن خبر الله تعالى في الأزل كان خبرا بأنهم سيكفرون ، فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبرا عن أنهم قد كفروا ، ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى . الثاني : أن الله تعالى قال : ( لتدخلن المسجد الحرام ) [الفتح : 27] فلما دخلوا المسجد لا بد وأن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا مثله ؟ أجاب المستدل أولا عن السؤال الأول ، فقال : عند أبي الحسين البصري وأصحابه العلم يتغير عند تغير المعلومات ، وكيف لا والعلم بأن العالم غير موجود ، وأنه سيوجد لو بقي حال وجود العالم ، لكان ذلك جهلا لا علما ، وإذا كان كذلك وجب تغير ذلك العلم ، وعلى هذا سقطت هذه المعارضة . وعن الثاني : أن خبر الله تعالى وكلامه أصوات مخصوصة ، فقوله تعالى : ( لتدخلن المسجد الحرام ) معناه أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام في الوقت المتقدم على دخول المسجد لا أنه تكلم به بعد دخول المسجد ، فنظيره في مسألتنا أن يقال : إن قوله : ( إن الذين كفروا ) تكلم الله تعالى به بعد صدور الكفر عنهم لا قبله ، إلا أنه متى قيل ذلك كان اعترافا بأن تكلمه بذلك لم يكن حاصلا في الأزل وهذا هو المقصود ، أجاب القائلون بالقدم بأنا لو قلنا إن العلم يتغير بتغير المعلوم لكنا إما أن نقول بأن العالم سيوجد كان حاصلا في الأزل أو ما كان ، فإن لم يكن حاصلا في الأزل كان ذلك تصريحا بالجهل . وذلك كفر ، وإن قلنا إنه كان حاصلا فزواله يقتضي زوال القديم ، وذلك سد باب إثبات حدوث العالم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية