(
من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون )
قوله تعالى :(
من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون )
في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما وصف الضالين بالوصف المذكور وعرف حالهم بالمثل المذكور بين في هذه الآية أن الهداية من الله ، وأن الإضلال من الله تعالى ، وعند هذه اضطربت
المعتزلة ، وذكروا في التأويل وجوها كثيرة :
الأول : وهو الذي ذكره
الجبائي وارتضاه القاضي أن المراد من يهده الله إلى الجنة والثواب في الآخرة ، فهو المهتدي في الدنيا ، السالك طريقة الرشد فيما كلف ، فبين الله تعالى أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه ، ومن يضلله عن طريق الجنة(
فأولئك هم الخاسرون ) .
والثاني :
[ ص: 49 ] قال بعضهم : إن في الآية حذفا ، والتقدير : من يهده الله فقبل وتمسك بهداه فهو المهتدي ، ومن يضلل بأن لم يقبل فهو الخاسر .
الثالث : أن يكون المراد من يهده الله بمعنى أن من وصفه الله بكونه مهتديا فهو المهتدي ، لأن ذلك كالمدح ومدح الله لا يحصل إلا في حق من كان موصوفا بذلك الوصف الممدوح ، ومن يضلل أي ومن وصفه الله بكونه ضالا(
فأولئك هم الخاسرون ) .
والرابع : أن يكون المراد من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ، ومن يضلل عن ذلك لما تقدم منه من سوء اختياره ، فأخرج لهذا السبب بتلك الألطاف من أن يؤثر فيه فهو من الخاسرين .
واعلم أنا بينا أن الدلائل العقلية القاطعة ، قد دلت على أن
الهداية والإضلال لا يكونان إلا من الله من وجوه :
الأول : أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصول الداعي ليس إلا من الله فالفعل ليس إلا من الله .
الثاني : أن خلاف معلوم الله ممتنع الوقوع ، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضد .
الثالث : أن كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة ، فإذا حصل الكفر عقيبه علمنا أنه ليس منه بل من غيره ، ثم نقول :
أما التأويل الأول : فضعيف لأنه حمل قوله :(
من يهد الله ) على الهداية في الآخرة إلى الجنة ، وقوله :(
فهو المهتدي ) على الاهتداء إلى الحق في الدنيا ، وذلك يوجب ركاكة في النظم ، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد ، حتى يكون الكلام حسن النظم .
وأما الثاني : فإنه التزام لإضمار زائد ، وهو خلاف اللفظ ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتا ، والإثبات نفيا ، ويخرج كلام الله عز وجل من أن يكون حجة ، فإن لكل أحد أن يضمر في الآية ما يشاء ، وحينئذ يخرج الكل عن الإفادة .
وأما الثالث : فضعيف ؛ لأن قول القائل : فلان هدى فلانا . لا يفيد في اللغة البتة أنه وصفه بكونه مهتديا ، وقياس هذا على قوله : فلان ضلل فلانا وكفره ، قياس في اللغة ، وأنه في نهاية الفساد . والرابع أيضا باطل ؛ لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف ، فقد فعله عند
المعتزلة في حق جميع الكفار ، فحمل الآية على هذا التأويل بعيد . والله أعلم .
المسألة الثانية :
قوله :( فهو المهتدي ) يجوز إثبات الياء فيه على الأصل ، ويجوز حذفها طلبا للتخفيف كما قيل في بيت الكتاب :
فطرت بمنصلي في يعملات دوامي الأيد يخبطن السريحا
ومن أبياته أيضا :
كخواف ريش حمامة نجدية مسحت بماء البين عطف الأثمد
قال
أبو الفتح الموصلي يريد كخواف محذوف الياء .
وأما قوله :(
ومن يضلل ) يريد ومن يضلله الله ويخذله(
فأولئك هم الخاسرون ) أي خسروا الدنيا والآخرة .