أما قوله تعالى :(
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة
قولهم في خلق الأعمال ، فقالوا : لا شك أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ، ولا شك أنه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيات ، وآذان يسمعون بها الكلمات ، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين ، وهو أنهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين ، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين .
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت أنه تعالى كلفهم بتحصيل الدين مع أن قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك ، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصد عنه مع الأمر به ، وذلك هو المطلوب ، قالت
المعتزلة لو كانوا كذلك ، لقبح من الله تكليفهم ؛ لأن تكليف من لا قدرة له على العمل قبيح غير لائق بالحكيم ؛ فوجب حمل الآية على أن المراد منه أنهم بكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الالتفات إليها صاروا مشبهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة .
والجواب : أن الإنسان إذا تأكدت نفرته عن شيء ، صارت تلك النفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدال على صحة الشيء ، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله ، وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدها كل عاقل من نفسه . ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور ( حبك الشيء يعمي ويصم ) .
[ ص: 53 ] إذا ثبت هذا فنقول : إن أقواما من الكفار بلغوا في عداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وفي بغضه وفي شدة النفرة عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأقوى منه ، والعلم الضروري حاصل بأن حصول البغض والحب في القلب ليس باختيار الإنسان ، بل هو حاصل في القلب ، شاء الإنسان أم كره .
إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أن حصول هذه النفرة والعداوة في القلب ليس باختيار العبد ، وثبت أنه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب ، فإن الإنسان لا يمكنه مع تلك النفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم ، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوما لا محيص عنه . ونقل عن أمير المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب خطبة في تقرير هذا المعنى وهو في غاية الحسن . روى الشيخ
أحمد البيهقي في كتاب مناقب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب - رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع ، وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص ، وإن أهلكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع ، وإن وجد مالا أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد ، وأقول : هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف ، وهو كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر ؛ لأن
أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب ، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها ، وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر ، وذكر الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي رحمه الله في كتاب ( الإحياء ) فصلا في تقرير مذهب الجبر .
ثم قال فإن قيل : إني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت ، وإن شئت الترك تركت ، فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري ثم قال : وهب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئا شئته ، وإن شئت أن لا تشاء لم تشأه ، ما أظنك أن تقول ذلك ، وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له ؛ بل شئت أو لم تشأ فإنك تشاء ذلك الشيء ، وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته ، فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك ، فالإنسان مضطر في صورة مختار .
المسألة الثانية : احتج العلماء بقوله تعالى :(
لهم قلوب لا يفقهون بها ) على أن
محل العلم هو القلب ، لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم ، وهذا إنما يصح لو كان محل الفهم والفقه هو القلب والله أعلم .
أما قوله :(
أولئك كالأنعام بل هم أضل ) فتقريره أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة ، ومتشاركة أيضا في منافع الحواس الخمس الباطنة والظاهرة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر ، وإنما حصل الامتياز بين الإنسان وبين سائر الحيوانات في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فلما أعرض الكفار عن اعتبار أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام .
ثم قال :(
بل هم أضل ) لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل ، والإنسان أعطي القدرة
[ ص: 54 ] على تحصيلها ، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخص حالا ممن لم يكتسبها مع العجز عنها . فلهذا السبب قال تعالى :(
بل هم أضل ) وقال حكيم الشعراء :
الروح عند إله العرش مبدؤه وتربة الأرض أصل الجسم والبدن
قد ألف الملك الحنان بينهما
ليصلحا لقبول الأمر والمحن
فالروح في غربة والجسم في وطن
فاعرف ذمام الغريب النازح الوطن
وقيل في تفسير قوله :(
بل هم أضل ) وجوه أخرى ، فقيل : لأن
الأنعام مطيعة لله تعالى ، والكافر غير مطيع ، وقال
مقاتل : هم أخطأ طريقا من الأنعام ، لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره ، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه . وقال
الزجاج :(
بل هم أضل ) لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيل منافعها وتحترز عن مضارها ، وهؤلاء الكفار وأهل العناد أكثرهم يعلمون أنهم معاندون ومع ذلك فيصرون عليه ، ويلقون أنفسهم في النار وفي العذاب ، وقيل إنها تفر أبدا إلى أربابها ، ومن يقوم بمصالحها ، والكافر يهرب عن ربه وإلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حد لها . وقيل : لأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد ، فأما إذا كان معها مرشد قلما تضل ، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال ، ثم إنه تعالى ختم الآية فقال :(
أولئك هم الغافلون ) قال
عطاء : عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب .