(
والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين )
قوله تعالى :(
والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين )
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة ، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى ، وما عليهم من الوعيد ، فقال :(
والذين كذبوا بآياتنا ) وهذا يتناول جميع المكذبين ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما : المراد
أهل مكة ، وهو بعيد ، لأن صفة العموم يتناول الكل ، إلا ما دل الدليل على خروجه منه .
وأما قوله :(
سنستدرجهم ) فالاستدراج الاستفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال ، درجة بعد درجة ، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه ، وأدرج الكتاب طواه شيئا بعد شيء ودرج القوم ، مات بعضهم عقيب بعضهم ، ويحتمل أن يكون هذا اللفظ مأخوذ من الدرج وهو لف الشيء وطيه جزءا فجزءا .
إذا عرفت هذا فالمعنى سنقربهم إلى ما يهلكهم ، ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم ، وذلك لأنهم
كلما أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم بابا من أبواب النعمة والخير في الدنيا ، فيزدادون بطرا وانهماكا في الفساد وتماديا في الغي ، ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم ، ثم
[ ص: 61 ] يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون ، ولهذا قال
عمر - رضي الله عنه - لما حمل إليه كنوز
كسرى : ( اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني سمعتك تقول :
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون )
ثم قال تعالى :(
وأملي لهم إن كيدي متين ) الإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة ونقيضه الإعجال والملي زمان طويل من الدهر ومنه قوله :(
واهجرني مليا ) [ مريم : 46 ] أي طويلا . ويقال : ملوة وملوة وملاوة من الدهر أي زمان طويل ، فمعنى(
وأملي لهم ) أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة . وقوله :(
إن كيدي متين ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يريد إن مكري شديد ، والمتين من كل شيء هو القوي ، يقال متن متانة .
واعلم أن أصحابنا احتجوا في مسألة القضاء والقدر بهذه الألفاظ الثلاثة ، وهي الاستدراج والإملاء والكيد المتين ، وكلها تدل على أنه تعالى أراد بالعبد ما يسوقه إلى الكفر والبعد عن الله تعالى ، وذلك ضد ما يقوله
المعتزلة .
أجاب
nindex.php?page=showalam&ids=13980أبو علي الجبائي ، بأن المراد من الاستدراج ، أنه تعالى استدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلمون ، استدراجا لهم إلى ذلك حتى يقعوا فيه بغتة ، وقد يجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل والاستئصال ، ويجوز أن يكون عذاب الآخرة . قال وقد قال بعض المجبرة المراد : سنستدرجهم إلى الكفر من حيث لا يعلمون . قال : وذلك فاسد ، لأن الله تعالى أخبر بتقدم كفرهم ، فالذي يستدرجهم إليه فعل مستقبل ؛ لأن السين في قوله :(
سنستدرجهم ) يفيد الاستقبال ، ولا يجب أن يكون المراد : أن يستدرجهم إلى كفر آخر لجواز أن يميتهم قبل أن يوقعهم في كفر آخر ، فالمراد إذن : ما قلناه ، ولأنه تعالى لا يعاقب الكافر بأن يخلق فيه كفرا آخر ، والكفر هو فعله ، وإنما يعاقبه بفعل نفسه .
وأما قوله :(
وأملي لهم ) فمعناه : أني أبقيهم في الدنيا مع إصرارهم على الكفر ، ولا أعاجلهم بالعقوبة لأنهم لا يفوتونني ولا يعجزونني ، وهذا معنى قوله :(
إن كيدي متين ) لأن كيده هو عذابه ، وسماه كيدا لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون .
والجواب عنه من وجهين :
الأول : أن قوله :(
والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم ) معناه : ما ذكرنا أنهم كلما زادوا تماديا في الذنب والكفر ، زادهم الله نعمة وخيرا في الدنيا ، فيصير فوزهم بلذات الدنيا سببا لتماديهم في الإعراض عن ذكر الله وبعدا عن الرجوع إلى طاعة الله ، هذه حالة نشاهدها في بعض الناس ، وإذا كان هذا أمرا محسوسا مشاهدا فكيف يمكن إنكاره .
الثاني : هب أن المراد منه الاستدراج إلى العقاب ، إلا أن هذا أيضا يبطل القول بأنه تعالى ما أراد بعبده إلا الخير والصلاح ، لأنه تعالى لما علم أن هذا الاستدراج ، وهذا الإمهال ، مما قد يزيد به عتوا وكفرا وفسادا واستحقاق العقاب الشديد ، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجبا لتلك الزيادات من العقوبة بل لكان يجب في حكمته ورعايته للمصالح أن لا يخلقه ابتداء صونا له عن هذا العقاب ، أو أن يخلقه لكنه يميته قبل أن يصير في حد التكليف ، أو أن لا يخلقه إلا في الجنة ، صونا له عن الوقوع في آفات الدنيا وفي عقاب الآخرة ، فلما خلقه في الدنيا وألقاه في ورطة التكليف ، وأطال عمره ومكنه من المعاصي مع علمه بأن ذلك لا يفيد إلا مزيد الكفر والفسق واستحقاق العقاب ، علمنا أنه ما خلقه إلا للعذاب وإلا للنار ، كما شرحه في الآية المتقدمة ، وهي قوله :
[ ص: 62 ] (
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ) وأنا شديد التعجب من هؤلاء
المعتزلة ، فإنهم يرون القرآن كالبحر الذي لا ساحل له مملوءا من هذه الآيات والدلائل العقلية القاطعة مطابقة لها ، ثم إنهم يكتفون في تأويلات هذه الآيات بهذه الوجوه الضعيفة والكلمات الواهية ، إلا أن علمي بأن ما أراده الله كائن يزيل هذا التعجب . والله أعلم .