(
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون )
قوله تعالى :(
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه :
الأول : أن قوله :(
لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ) أي أنا لا أدعي علم
الغيب إن أنا إلا نذير وبشير ، ونظيره قوله تعالى في سورة يونس :(
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل ) [يونس : 48 - 49] روي
أن أهل مكة قالوا : يا محمد ألا يخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح ، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
الثالث : قال بعضهم :
لما رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين ، وقال : انظروا أين ناقتي ، فقال عبد الله بن أبي مع قومه : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إن ناسا من المنافقين قالوا كيت وكيت ، وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة" فوجدها على ما قال ، فأنزل الله تعالى :( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ) .
المسألة الثانية : اعلم أن القوم لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب وطالبوه بإعطاء الأموال الكثيرة والدولة العظيمة ذكر أن قدرته قاصرة وعلمه قليل ، وبين أن كل من كان عبدا كان كذلك ، والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليسا إلا لله تعالى ، فالعبد كيف يحصل له هذه القدرة وهذا العلم ؟ واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله تعالى :(
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ) والإيمان نفع والكفر ضر ، فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى ، وذلك يدل على أن
الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه ، وتقريره ما ذكرناه مرارا أن القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان ، فخالق تلك القدرة يكون مريدا للكفر ، وإن كانت صالحة للإيمان ، فخالق تلك القدرة يكون مريدا للإيمان ، وإن كانت صالحة للإيمان امتنع صدور الكفر عنها بدلا عن الإيمان إلا عند حدوث داعية جازمة ، فخالق تلك الداعية الجازمة يكون مريدا
[ ص: 69 ] للكفر ، فثبت أن على جميع التقادير لا يملك العبد لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله .
أجاب القاضي عنه بوجوه :
الأول : أن ظاهر قوله :(
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ) وإن كان عاما بحسب اللفظ إلا أنا ذكرنا أن سبب نزوله هو أن الكفار قالوا : يا
محمد ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو ، حتى نشتري الرخيص فنربح عليه عند الغلاء ، فيحمل اللفظ العام على سبب نزوله ، والمراد بالنفع : تملك الأموال وغيرها ، والمراد بالضر وقت القحط والأمراض وغيرها .
الثاني : المراد لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فيما يتصل بعلم الغيب ، والدليل على أن المراد ذلك قوله :(
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ) .
الثالث : المراد : لا أملك لنفسي من الضر والنفع إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه ، والمقصود من هذا الكلام بيان أنه لا يقدر على شيء إلا إذا أقدره الله عليه .
واعلم أن هذه الوجوه بأسرها عدول عن ظاهر اللفظ ، وكيف يجوز المصير إليه مع أنا أقمنا البرهان القاطع العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه ظاهر لفظ هذه الآية ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : احتج الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم علمه بالغيب بقوله :(
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ) واختلفوا في المراد من هذا الخير ، فقيل المراد منه : جلب منافع الدنيا وخيراتها ، ودفع آفاتها ومضراتها ، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب والجدب والأرباح والأكساب . وقيل : المراد منه ما يتصل بأمر الدين ، يعني : لو كنت أعلم الغيب كنت أعلم أن الدعوى إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذاك ، فكيف أشتغل بدعوة هذا دون ذاك .
وقيل : المراد منه : ما يتصل بالجواب عن السؤالات ، والتقدير : لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير .
والجواب عن هذه المسائل التي سألوه عنها مثل السؤال عن وقت قيام الساعة وغيره .
أما قوله :(
وما مسني السوء ) ففيه قولان :
القول الأول : قال
الواحدي رحمه الله : تم الكلام عند قوله :(
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ) قال :(
وما مسني السوء ) أي ليس بي جنون ، وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله :(
ما بصاحبهم من جنة ) وهذا القول عندي بعيد جدا ويوجب تفكك نظم الآية .
والقول الثاني : أنه تمام الكلام الأول ، والتقدير : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير ، ولاحترزت عن الشر حتى صرت بحيث لا يمسني سوء . ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر أن علم الغيب غير حاصل عندي ، ولما بين بما سبق أنه لا يقدر إلا على ما أقدره الله عليه ، ولا يعلم إلا ما أعطاه الله العلم به قال :(
إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) والنذير مبالغة في الإنذار بالعقاب على فعل المعاصي وترك الواجبات ، والبشير مبالغة في البشارة بالثواب على فعل الواجبات وترك المعاصي وقوله :(
لقوم يؤمنون ) فيه قولان :
أحدهما : أنه نذير وبشير للمؤمنين والكافرين إلا أنه ذكر إحدى الطائفتين وترك ذكر الثانية لأن ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى ، كقوله :(
سرابيل تقيكم الحر ) [النحل : 81] .
والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام وإن كان نذيرا وبشيرا للكل إلا أن المنتفع بتلك النذارة والبشارة هم المؤمنون ، فلهذا السبب خصهم الله بالذكر ، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى :(
هدى للمتقين ) [البقرة : 2] .