أما قوله تعالى :(
ولا يستطيعون لهم نصرا ) يريد أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تنتصر ممن عصاها ، والنصر : المعونة على العدو ، والمعنى أن المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضرر ، وهذه الأصنام ليست كذلك ، فكيف يليق بالعاقل عبادتها ؟ .
ثم قال :(
ولا أنفسهم ينصرون ) أي ولا يدفعون عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه .
ثم قال :(
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ) واعلم أنه تعالى لما أثبت بالآية المتقدمة أنه لا قدرة لهذه الأصنام على أمر من الأمور ، بين بهذه الآية أنه لا علم لها بشيء من الأشياء ، والمعنى أن هذا المعبود الذي يعبده المشركون معلوم من حاله أنه كما لا ينفع ولا يضر ، فكذا لا يصح فيه إذا دعا إلى الخير الاتباع ، ولا يفصل حال من يخاطبه ممن يسكت عنه ، ثم قوى هذا الكلام بقوله :(
سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) وهذا مثل قوله :(
سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) [البقرة : 6] وذكرنا ما فيه من المباحث في تلك الآية إلا أن الفرق في تلك الآية عطف الفعل على الفعل ، وههنا عطف الاسم على الفعل ، لأن قوله :(
أدعوتموهم ) جملة فعلية : وقوله :(
أم أنتم صامتون ) جملة اسمية .
واعلم أنه ثبت أن
عطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يجوز إلا لفائدة وحكمة ، وتلك الفائدة هي أن
[ ص: 75 ] صيغة الفعل مشعرة بالتجدد والحدوث حالا بعد حال ، وصيغة الاسم مشعرة بالدوام والثبات والاستمرار .
إذا عرفت هذا فنقول : إن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم وفي معضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام ، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين ، فقيل لهم لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم وسكوتكم ، فهذا هو الفائدة في هذه اللفظة ، ثم أكد الله بيان أنها لا تصلح للإلهية ، فقال :(
إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) وفيه سؤال : وهو أنه كيف يحسن وصفها بأنها عباد مع أنها جمادات ؟ وجوابه من وجوه :
الأول : أن المشركين لما ادعوا أنها تضر وتنفع ، وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة ، فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم ، ولذلك قال :(
فادعوهم فليستجيبوا لكم ) ولم يقل فادعوهم فليستجبن لكم وقال :(
إن الذين ) ولم يقل التي .
والجواب الثاني : أن هذا اللغو أورد في معرض الاستهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم ، فلم جعلتم أنفسكم عبيدا وجعلتموها آلهة وأربابا ؟ ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم . فقال :(
ألهم أرجل يمشون بها ) ثم أكد هذا البيان بقوله :(
فادعوهم فليستجيبوا لكم ) ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم ، واللام في قوله :(
فليستجيبوا ) لام الأمر على معنى التعجيز ، والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية ، ونظيره قول
إبراهيم عليه السلام لأبيه :(
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) [مريم : 42] وقوله :(
إن كنتم صادقين ) أي في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة ، ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينية أنها لا تصلح للمعبودية ، وجب على العاقل أن لا يلتفت إليها ، وأن لا يشتغل إلا بعبادة الإله القادر العالم الحي الحكيم الضار النافع .