والقيد الخامس : قوله :(
بالغدو والآصال ) وههنا مسائل :
المسألة الأولى : في
لفظ "الغدو" قولان :
القول الأول : أنه مصدر يقال غدوت أغدو غدوا وغدوا ، ومنه قوله تعالى :(
غدوها شهر ) [سبأ : 12] أي غدوها للسير ، ثم سمي وقت الغدو غدوا ، كما يقال : دنا الصباح أي وقته ، ودنا المساء أي وقته .
القول الثاني : أن يكون الغدو جمع غدوة ، قال
الليث : الغدو جمع مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة ، وأما(
والآصال ) فقال
الفراء : واحدها أصل وواحد الأصل الأصيل ، قال يقال جئناهم مؤصلين أي عند الآصال ، ويقال الأصيل مأخوذ من الأصل ، واليوم بليلته إنما يبتدئ بالشروع من أول الليل ، وآخر نهار كل يوم متصل بأول ليل اليوم الثاني ، فسمي آخر النهار أصيلا ، لكونه ملاصقا لما هو الأصل لليوم الثاني .
المسألة الثانية : خص الغدو والآصال بهذا الذكر ، والحكمة فيه أن عند الغدوة انقلب الإنسان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة ، والعالم انقلب من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور
[ ص: 89 ] الذي هو طبيعة وجودية . وأما عند الآصال فالأمر بالضد لأن الإنسان ينقلب فيه من الحياة إلى الموت ، والعالم ينقلب فيه من النور الخالص إلى الظلمة الخالصة ، وفي هذين الوقتين يحصل هذان النوعان من التغيير العجيب القوي القاهر ، ولا يقدر على مثل هذا التغيير إلا الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة الغير المتناهية ، فلهذه الحكمة العجيبة خص الله تعالى هذين الوقتين بالأمر بالذكر . ومن الناس من قال : ذكر هذين الوقتين والمراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان . عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال في قوله :(
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) [الأعراف : 191] لو حصل لابن
آدم حالة رابعة سوى هذه الأحوال لأمر الله بالذكر عندها ، والمراد منه أنه تعالى أمر
بالذكر على الدوام .
والقيد السادس : قوله تعالى :(
ولا تكن من الغافلين ) والمعنى أن قوله :(
بالغدو والآصال ) دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلا في كل الأوقات ، وقوله :(
ولا تكن من الغافلين ) يدل على أن
الذكر القلبي يجب أن يكون دائما ، وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية والقوة الإنسانية ، وتحقيق القول أن بين الروح وبين البدن علاقة عجيبة ، لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه أثر إلى البدن ، وكل حالة حصلت في البدن صعدت منها نتائج إلى الروح ، ألا ترى أن الإنسان إذا تخيل الشيء الحامض ضرس سنه ، وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه ، فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن ، وأيضا إذا واظب الإنسان على عمل من الأعمال وكرره مرات وكرات حصلت ملكة قوية راسخة في جوهر النفس ، فهذه آثار صعدت من البدن إلى النفس .
إذا عرفت هذا فنقول : إذا حضر الذكر اللساني بحيث يسمع نفسه حصل أثر من ذلك الذكر اللساني في الخيال ، ثم يصعد من ذلك الأثر الخيالي مزيد أنوار وجلايا إلى جوهر الروح ، ثم تنعكس من تلك الإشراقات الروحانية آثار زائدة إلى اللسان ومنه إلى الخيال ، ثم مرة أخرى إلى العقل ، ولا يزال تنعكس هذه الأنوار من هذه المرايا بعضها إلى بعض ، ويتقوى بعضها ببعض ويستكمل بعضها ببعض ، ولما كان لا نهاية لتزايد أنوار المراتب ، لا جرم لا نهاية لسفر العارفين في هذه المقامات العالية القدسية ، وذلك بحر لا ساحل له ، ومطلوب لا نهاية له .
واعلم أن
قوله تعالى :( واذكر ربك في نفسك ) وإن كان ظاهره خطابا مع النبي عليه السلام إلا أنه عام في حق كل المكلفين ، ولكل أحد درجة مخصوصة ومرتبة معينة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة كما قال في صفة الملائكة :(
وما منا إلا له مقام معلوم ) [الصافات : 164] .