الصفة الثانية : قوله تعالى :(
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) وهو كقوله :(
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) [التوبة : 124] ثم فيه مسائل :
المسألة الأولى :
زيادة الإيمان الذي هو التصديق على وجهين :
الوجه الأول : وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه
الواحدي رحمه الله : أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان أزيد إيمانا ، لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "
لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح " يريد أن معرفته بالله أقوى .
ولقائل أن يقول : المراد من هذه الزيادة : إما قوة الدليل أو كثرة الدلائل ، أما قوة الدليل فباطل ، وذلك لأن كل دليل فهو مركب لا محالة من مقدمات ، وتلك المقدمات إما أن يكون مجزوما بها جزما مانعا من النقيض أو لا يكون ، فإن كان الجزم المانع من النقيض حاصلا في كل المقدمات ، امتنع كون بعض الدلائل أقوى من بعض على هذا التفسير ، لأن الجزم المانع من النقيض لا يقبل التفاوت ، وأما إن كان الجزم المانع من النقيض غير حاصل إما في الكل أو في البعض فذلك لا يكون دليلا ، بل أمارة ، والنتيجة الحاصلة منها لا تكون علما بل ظنا ، فثبت بما ذكرنا أن حصول التفاوت في الدلائل بسبب القوة محال ، وأما حصول التفاوت بسبب كثرة الدلائل فالأمر كذلك ، لأن الجزم الحاصل بسبب الدليل الواحد إن كان مانعا من النقيض لم يكن دليلا ، بل كان أمارة ولم تكن النتيجة معلومة بل مظنونة ، فثبت أن هذا التأويل ضعيف .
واعلم أنه يمكن أن يقال : المراد من هذه الزيادة الدوام وعدم الدوام ، وذلك لأن بعض المستدلين لا يكون مستحضرا للدليل والمدلول إلا لحظة واحدة ، ومنهم من يكون مداوما لتلك الحالة وبين هذين الطرفين أوساط مختلفة ومراتب متفاوتة ، وهو المراد من الزيادة .
والوجه الثاني من زيادة التصديق : أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ، ولما كانت التكاليف متوالية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم متعاقبة ، فعند حدوث كل تكليف كانوا يزيدون تصديقا وإقرارا ، ومن المعلوم أن من صدق إنسانا في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد ، وقوله :(
وإذا تليت )
[ ص: 97 ] (
عليهم آياته زادتهم إيمانا ) معناه : أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق .
وفي الآية وجه ثالث : وهو أن كمال قدرة الله وحكمته إنما تعرف بواسطة آثار حكمة الله في مخلوقاته ، وهذا بحر لا ساحل له ، وكلما وقف عقل الإنسان على آثار حكمة الله في تخليق شيء آخر ، انتقل منه إلى طلب حكمته في تخليق شيء آخر ، فقد انتقل من مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى منها وأشرف وأكمل ، ولما كانت هذه المراتب لا نهاية لها ، لا جرم لا نهاية لمراتب التجلي والكشف والمعرفة .
المسألة الثانية : اختلفوا في أن
الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا ؟ أما الذين قالوا : الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ، فقد احتجوا بهذه الآية من وجهين :
الأول : أن قوله :(
زادتهم إيمانا ) يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة ، ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار لما قبل الزيادة .
والثاني : أنه تعالى لما ذكر هذه الأمور الخمسة قال في الموصوفين بها :(
أولئك هم المؤمنون حقا ) وذلك يدل على أن كل تلك الخصال داخل في
مسمى الإيمان ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012725الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " واحتجوا بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة ، قالوا : لأن الآية صريحة في أن الإيمان يقبل الزيادة ، والمعرفة والإقرار لا يقبلان التفاوت ، فوجب أن يكون الإيمان عبارة عن مجموع الإقرار والاعتقاد والعمل ، حتى أن بسبب دخول التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان . وهذا الاستدلال ضعيف لما بينا أن التفاوت بالدوام وعدم الدوام حاصل في الاعتقاد والإقرار ، وهذا القدر يكفي في حصول التفاوت في الإيمان ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : قوله :(
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) ظاهره مشعر بأن تلك الآيات هي المؤثرة في حصول الزيادة في الإيمان ، وليس الأمر كذلك ، لأن نفس تلك الآيات لا توجب الزيادة ، بل إن كان ولا بد فالموجب هو سماع تلك الآيات أو معرفة تلك الآيات توجب زيادة في المعرفة والتصديق ، والله أعلم .
الصفة الثالثة للمؤمنين :
قوله تعالى :( وعلى ربهم يتوكلون ) واعلم أن صفة المؤمنين أن يكونوا واثقين بالصدق في وعده ووعيده ، وأن يقولوا صدق الله ورسوله ، وأن لا يكون قولهم كقول المنافقين :(
ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) [الأحزاب : 12] ثم نقول : هذا الكلام يفيد الحصر ، ومعناه : أنهم لا يتوكلون إلا على ربهم ، وهذه الحالة مرتبة عالية ودرجة شريفة ، وهي : أن الإنسان بحيث يصير لا يبقى له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله .
واعلم أن هذه الصفات الثلاثة مرتبة على أحسن جهات الترتيب :
فإن المرتبة الأولى : هي الوجل من عقاب الله .
والمرتبة الثانية : هي الانقياد لمقامات التكاليف لله .
والمرتبة الثالثة : هي الانقطاع بالكلية عما سوى الله ، والاعتماد بالكلية على فضل الله ، بل الغنى بالكلية عما سوى الله تعالى .
والصفة الرابعة والخامسة : قوله :(
الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) واعلم أن المراتب
[ ص: 98 ] الثلاثة المتقدمة أحوال معتبرة في القلوب والبواطن ، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر؛ ورأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها
بذل النفس في الصلاة ،
وبذل المال في مرضاة الله ، ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلات ، والإنفاق في الجهاد ، والإنفاق على المساجد والقناطر ، قالت
المعتزلة : إنه تعالى مدح من ينفق ما رزقه الله ، وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز
الإنفاق من الحرام ، وذلك يدل على أن الحرام لا يكون رزقا ، وقد سبق ذكر هذا الكلام مرارا .