واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس : أثبت للموصوفين بها أمورا ثلاثة :
الأول : قوله :(
أولئك هم المؤمنون حقا ) .
المسألة الأولى : قوله :(
حقا ) بماذا يتصل ؟ ، فيه قولان :
أحدهما : بقوله :(
هم المؤمنون ) أي هم المؤمنون بالحقيقة .
والثاني : أنه تم الكلام عند قوله :(
أولئك هم المؤمنون ) ثم ابتدأ وقال :(
حقا لهم درجات ) .
المسألة الثانية :
ذكروا في انتصاب( حقا ) وجوها :
الأول : قال
الفراء : التقدير أخبركم بذلك حقا ، أي إخبارا حقا ، ونظيره قوله :(
أولئك هم الكافرون حقا ) [النساء : 151] .
والثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : وإن الذي فعلوه كان حقا صدقا .
الثالث : قال
الزجاج : التقدير : أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقا .
المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن ، واختلفوا في أنه هل يجوز
للرجل أن يقول أنا مؤمن حقا أم لا ؟ فقال أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ، ولا يقول : أنا مؤمن حقا . وقال أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رحمه الله : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقا ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . أما الذين قالوا إنه يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، فلهم فيه مقامان :
المقام الأول : أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان .
المقام الثاني : أن لا يكون الأمر كذلك . أما المقام الأول فتقريره : أن الإيمان عند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ، ولا شك أن كون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه ، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية ، فالإنسان وإن كان جازما بحصول الاعتقاد والإقرار ، إلا أنه لما كان شاكا في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكا في حصول الإيمان ، وأما عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رحمه الله ، فلما كان الإيمان اسما للاعتقاد والقول ، وكان العمل خارجا عن
مسمى الإيمان ، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان ، فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان ، وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط . وأما المقام الثاني : وهو أن نقول : إن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك ، ففيه وجوه :
الأول : أن كون الرجل مؤمنا أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله ، فإذا قال أنا مؤمن فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح ، فوجب أن يقول : إن شاء الله ليصير هذا سببا لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب . روي أن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة رحمه الله قال
لقتادة : لم تستثني في إيمانك ؟ قال اتباعا
لإبراهيم عليه السلام في قوله :
[ ص: 99 ] (
والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) [الشعراء : 82] في قوله :(
أولم تؤمن قال بلى ) [البقرة : 260] وأقول : كان
لقتادة أن يجيب ، ويقول : إنه بعد أن قال :(
بلى ) قال :(
ولكن ليطمئن قلبي ) فطلب مزيد الطمأنينة ، وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء الله .
الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمنا إلا إذا كان موصوفا بالصفات الخمس ، وهي
الخوف من الله ،
والإخلاص في دين الله ،
والتوكل على الله ،
والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى . وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر ، وهو قوله :(
إنما المؤمنون الذين ) هم كذا وكذا . وذكر في آخر الآية قوله :(
أولئك هم المؤمنون حقا ) وهذا أيضا يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ، لا جرم كان الأولى أن يقول : إن شاء الله . روي أن
الحسن سأله رجل وقال : أمؤمن أنت ؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله :(
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا ؟ .
الثالث : أن القرآن العظيم دل على أن كل
من كان مؤمنا كان من أهل الجنة ، فالقطع بكونه مؤمنا يوجب القطع بكونه من أهل الجنة ، وذلك لا سبيل إليه ، فكذا هذا . ونقل عن
الثوري أنه قال : من زعم أنه مؤمن بالله حقا ، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة ، فقد آمن بنصف الآية . والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة ، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن .
الرابع : أن
الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة ، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمنا في الحقيقة عندما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر ، فأما عند زوال هذا المعنى ، فهو إنما يكون مؤمنا بحسب حكم الله ، أما في نفس الأمر فلا .
إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائدا إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبدا دائما من غير حصول ذهول وغفلة عنه ، وهذا المعنى محتمل .
الخامس : أن أصحاب الموافاة يقولون : شرط كونه مؤمنا في الحال حصول الموافاة على الإيمان ، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت ، ويكون مجهولا ، والموقوف على المجهول مجهول . فلهذا السبب حسن أن يقال : أنا مؤمن إن شاء الله .
السادس : أن
يقول : أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت ، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة ، فإن الرجل وإن كان مؤمنا في الحال ، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة؛ كان وجوده كعدمه ، ولم تحصل فائدة أصلا ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى .
السابع : أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ، ألا ترى أنه تعالى قال :(
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) [الفتح : 27] وهو تعالى منزه عن الشك والريب . فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليما منه لعباده هذا المعنى ، فكذا ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله ، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان .
والثامن : أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة ، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى :(
أولئك هم المؤمنون حقا ) وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه ، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين ، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك ، فالمؤمن يقول : إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني . أما القائلون : إنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه :
الأول : أن المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا
[ ص: 100 ] متحرك إن شاء الله ، وكذا القول في القائم والقاعد ، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمنا ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركا في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركا حال قيام الحركة به ، فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل لا يقدح في كونه مؤمنا في الحال .
الثاني : أنه تعالى قال :(
أولئك هم المؤمنون حقا ) فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقا فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز .
والجواب عن الأول : أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمنا ، وبين وصفه بكونه متحركا ، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها ، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع .
وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقا ، وذلك الشرط مشكوك فيه ، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط ، فهذا يقوي عين مذهبنا . والله أعلم .
الحكم الثاني
من الأحكام التي أثبتها الله تعالى للموصوفين بالصفات الخمس قوله تعالى :(
لهم درجات عند ربهم ) والمعنى : لهم مراتب بعضها أعلى من بعض .
واعلم أن الصفات المذكورة قسمان : الثلاثة الأول : هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية ، وهي الخوف والإخلاص والتوكل . والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق ، ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب ، وفي تنويره بالمعارف الإلهية ، ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد ، فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب كانت المعارف أيضا لها درجات ومراتب ، وذلك هو المراد من قوله :(
لهم درجات عند ربهم ) والثواب الحاصل في الجنة أيضا مقدر بمقدار هذه الأحوال ، فثبت أن مراتب السعادات الروحانية قبل الموت وبعد الموت ، ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة ، فلهذا المعنى قال :(
لهم درجات عند ربهم ) .
فإن قيل : أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها فإنه يتألم قلبه ، ويتنغص عيشه ، وذلك مخل بكون الثواب رزقا كريما ؟ .
والجواب : أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد ، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم .
الحكم الثالث والرابع
أن قوله :(
ومغفرة ورزق كريم ) المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة ، قال المتكلمون : أما كونه رزقا كريما فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالإكرام والتعظيم ، ومجموع ذلك هو حد الثواب . وقال العارفون : المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله ، ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة الله ومحبته . قال
الواحدي : قال أهل اللغة : الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه ، والله تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم ، قال تعالى :(
إني ألقي إلي كتاب كريم ) [النمل : 29] وقال :(
من كل زوج كريم ) [الشعراء : 7] وقال :(
وندخلكم مدخلا كريما ) [النساء : 31] وقال :
[ ص: 101 ] (
وقل لهما قولا كريما ) [الإسراء : 23] فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة : يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش ، وأقول يجب ههنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية ، وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة الله ومحبته والاستغراق في عبوديته .
فإن قال قائل : ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب ، وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين ، لأنه لا بد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات .
قلنا : إنه تعالى بدأ بقوله :(
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين ، إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين ، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين ، تنبيها على أن
أشرف الأحوال الباطنة التوكل ،
وأشرف الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة .