وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى حكم عليهم بالتولي عن الدلائل وبالإعراض عن الحق وأنهم لا يقبلونه البتة ، ولا ينتفعون به البتة . فنقول : وجب أن يكون صدور الإيمان منهم محالا ، لأنه لو صدر الإيمان لكان إما أن يوجد ذلك الإيمان مع بقاء هذا الخبر صدقا أو مع انقلابه كذبا ، والأول محال ، لأن
وجود الإيمان مع الإخبار بعدم الإيمان جمع بين النقيضين وهو محال .
والثاني محال ، لأن انقلاب خبر الله الصدق كذبا محال ، لا سيما في الزمان الماضي المنقضي ، وهكذا القول في انقلاب علم الله جهلا ، وتقريره سبق مرارا .
المسألة الثانية :
النحويون يقولون : كلمة( ولو ) وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لأجل انتفاء غيره ، فإذا قلت : لو جئتني لأكرمتك ، أفاد أنه ما حصل المجيء ، وما حصل الإكرام . ومن الفقهاء من قال : إنه لا يفيد إلا الاستلزام ، فأما الانتفاء لأجل انتفاء الغير ، فلا يفيده هذا اللفظ والدليل عليه الآية والخبر ، أما الآية ، فهي هذه الآية ، وتقريره : أن كلمة(
ولو ) لو أفادت ما ذكروه لكان قوله :(
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) يقتضي أنه تعالى ما علم فيهم خيرا وما أسمعهم . ثم قال :(
ولو أسمعهم لتولوا ) فيكون معناه : أنه ما أسمعهم وأنهم ما تولوا ؛ لكن عدم التولي خير من الخيرات ، فأول الكلام يقتضي نفي الخير ، وآخره يقتضي حصول الخير ، وذلك متناقض . فثبت أن القول بأن كلمة(
ولو ) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره يوجب هذا التناقض ، فوجب أن
[ ص: 117 ] لا يصار إليه . وأما الخبر فقوله عليه السلام :
"نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " فلو كانت لفظة "لو" تفيد ما ذكروه لصار المعنى أنه خاف الله وعصاه ، وذلك متناقض . فثبت أن كلمة(
ولو ) لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، وإنما تفيد مجرد الاستلزام .
واعلم أن هذا الدليل أحسن إلا أنه على خلاف قول جمهور الأدباء .
المسألة الثالثة : أن
معلومات الله تعالى على أربعة أقسام :
أحدها : جملة الموجودات .
والثاني : جملة المعدومات .
والثالث : أن كل واحد من الموجودات لو كان معدوما فكيف يكون حاله .
الرابع : أن كل واحد من المعدومات لو كان موجودا كيف يكون حاله ، والقسمان الأولان علم بالواقع ، والقسمان الثانيان علم بالمقدر الذي هو غير واقع ، فقوله :(
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) من القسم الثاني وهو العلم بالمقدرات ، وليس من أقسام العلم بالواقعات ، ونظيره قوله تعالى حكاية عن المنافقين :(
لئن أخرجتم لنخرجن معكم )(
وإن قوتلتم لننصرنكم ) [الحشر : 11] وقال تعالى :(
لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ) [الحشر : 12] فعلم تعالى في المعدوم أنه لو كان موجودا كيف يكون حاله ، وأيضا قوله :(
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) فأخبر عن المعدوم أنه لو كان موجودا كيف يكون حاله .