المسألة الثالثة : تمسك الطاعنون في
عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه :
الوجه الأول : أن قوله تعالى :(
ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) صريح في أن هذا المعنى منهي عنه ، وممنوع من قبل الله تعالى ، ثم إن هذا المعنى قد حصل ، ويدل عليه وجهان :
الأول : قوله تعالى بعد هذه الآية :(
ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ) [الأنفال : 70] .
الثاني : أن الرواية التي ذكرناها قد دلت على أنه عليه الصلاة والسلام ما قتل أولئك الكفار ، بل أسرهم ، فكان الذنب لازما من هذا الوجه .
الوجه الثاني : أنه تعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وجميع قومه يوم
بدر بقتل الكفار وهو قوله :(
فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) [الأنفال : 12] وظاهر الأمر للوجوب ، فلما لم يقتلوا بل أسروا كان الأسر معصية .
الوجه الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء ، وكان أخذ الفداء معصية ، ويدل عليه وجهان :
الأول : قوله تعالى :(
تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) وأجمع المفسرون على أن المراد من عرض الدنيا ههنا هو أخذ الفداء .
والثاني : قوله تعالى :(
لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) وأجمعوا على أن المراد بقوله :(
أخذتم ) ذلك الفداء .
الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم
وأبا بكر بكيا ، وصرح الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إنما بكى لأجل أنه حكم بأخذ الفداء ، وذلك يدل على أنه ذنب .
الوجه الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
إن العذاب قرب نزوله ولو نزل لما نجا منه إلا عمر " وذلك يدل على الذنب ، فهذه جملة وجوه تمسك القوم بهذه الآية .
والجواب عن الوجه الذي ذكروه أولا : أن قوله :(
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) يدل على أنه كان الأسر مشروعا ، ولكن بشرط سبق الإثخان في الأرض ، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد ، ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم
بدر خلقا عظيما ، وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس ، ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة ، والآية تدل على أن بعد الإثخان يجوز الأسر فصارت هذه الآية دالة دلالة بينة على أن ذلك الأسر كان جائزا بحكم هذه الآية ، فكيف يمكن التمسك بهذه الآية في أن ذلك الأسر كان ذنبا ومعصية ؟ ويتأكد هذا الكلام بقوله تعالى :(
حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ) [محمد : 4] .
فإن قالوا : فعلى ما شرحتموه دلت الآية على أن ذلك الأسر كان جائزا ، والإتيان بالجائز المشروع لا يليق ترتيب العقاب عليه ، فلم ذكر الله بعده ما يدل على العقاب ؟ فنقول : الوجه فيه أن الإثخان في الأرض ليس مضبوطا بضابط معلوم معين ، بل المقصود منه إكثار القتل بحيث يوجب وقوع الرعب في قلوب الكافرين ، وأن لا يجترئوا على محاربة المؤمنين ، وبلوغ القتل إلى هذا الحد المعين لا شك أنه يكون مفوضا إلى
[ ص: 159 ] الاجتهاد ، فلعله غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أن ذلك القدر من القتل الذي تقدم كفى في حصول هذا المقصود ، مع أنه ما كان الأمر كذلك فكان هذا خطأ واقعا في الاجتهاد في صورة ليس فيها نص ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فحسن ترتيب العقاب على ذكر هذا الكلام لهذا السبب ، مع أن ذلك لا يكون البتة ذنبا ولا معصية .
والجواب عن الوجه الذي ذكروه ثانيا أن نقول : إن ظاهر قوله تعالى :(
فاضربوا فوق الأعناق ) أن هذا الخطاب إنما كان مع الصحابة لإجماع المسلمين على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان مأمورا أن يباشر قتل الكفار بنفسه ، وإذا كان هذا الخطاب مختصا بالصحابة ، فهم لما تركوا القتل وأقدموا على الأسر ، كان الذنب صادرا منهم لا من الرسول صلى الله عليه وسلم . ونقل أن الصحابة لما هزموا الكفار وقتلوا منهم جمعا عظيما ، والكفار فروا ذهب الصحابة خلفهم وتباعدوا عن الرسول وأسروا أولئك الأقوام ، ولم يعلم الرسول بإقدامهم على الأسر إلا بعد رجوع الصحابة إلى حضرته ، وهو عليه السلام ما أسر وما أمر بالأسر ، فزال هذا السؤال .
فإن قالوا : هب أن الأمر كذلك ، لكنهم لما حملوا الأسارى إلى حضرته فلم لم يأمر بقتلهم امتثالا لقوله تعالى :(
فاضربوا فوق الأعناق ) .
قلنا : إن قوله :(
فاضربوا ) تكليف مختص بحالة الحرب عند اشتغال الكفار بالحرب ، فأما بعد انقضاء الحرب فهذا التكليف ما كان متناولا له ، والدليل القاطع عليه أنه عليه الصلاة والسلام استشار الصحابة في أنه بماذا يعاملهم ، ولو كان ذلك النص متناولا لتلك الحالة ، لكان مع قيام النص القاطع تاركا لحكمه وطالبا ذلك الحكم من مشاورة الصحابة ، وذلك محال ، وأيضا فقوله :(
فاضربوا فوق الأعناق ) أمر ، والأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة ، وثبت بالإجماع أن هذا المعنى كان واجبا حال المحاربة فوجب أن يبقى عديم الدلالة على ما وراء وقت المحاربة ، وهذا الجواب شاف .
والجواب عما ذكروه ثالثا ، وهو قولهم : إنه عليه الصلاة والسلام حكم بأخذ الفداء ، وأخذ الفداء محرم ، فنقول : لا نسلم أن
أخذ الفداء محرم .
وأما قوله :(
تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) فنقول : هذا لا يدل على قولكم ، وبيانه من وجهين :
الأول : أن المراد من هذه الآية حصول العتاب على الأسر لغرض أخذ الفداء ، وذلك لا يدل على أن أخذ الفداء محرم مطلقا .
الثاني : أن
أبا بكر رضي الله عنه قال : الأولى أن نأخذ الفداء لتقوى العسكر به على الجهاد ، وذلك يدل على أنهم إنما طلبوا ذلك الفداء للتقوي به على الدين ، وهذه الآية تدل على ذم من طلب الفداء لمحض عرض الدنيا ولا تعلق لأحد البابين بالثاني ، وهذان الجوابان بعينهما هما الجوابان عن تمسكهم بقوله تعالى :(
لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) .
والجواب عما ذكروه رابعا : أن بكاء الرسول عليه الصلاة والسلام يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف أمر الله في القتل ، واشتغل بالأسر استوجب العذاب ، فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام خوفا من نزول العذاب عليهم ، ويحتمل أيضا ما ذكرناه أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في أن القتل الذي حصل هل بلغ مبلغ الإثخان الذي أمره الله به في قوله :(
حتى يثخن في الأرض ) ووقع الخطأ في ذلك الاجتهاد ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فأقدم على البكاء لأجل هذا المعنى .
[ ص: 160 ] والجواب عما ذكروه خامسا : أن ذلك العذاب إنما نزل بسبب أن أولئك الأقوام خالفوا أمر الله بالقتل ، وأقدموا على الأسر حال ما وجب عليهم الاشتغال بالقتل ، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة ، والله أعلم .