(
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين )
قوله تعالى :(
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ) .
[ ص: 174 ] وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : معنى البراءة انقطاع العصمة ، يقال : برئت من فلان أبرأ براءة ، أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة ، ومن هنا يقال : برئت من الدين ،
وفي رفع قوله :( براءة ) قولان :
الأول : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة ، قال
الفراء : ونظيره قولك إذا نظرت إلى رجل جميل : جميل والله ، أي هذا جميل والله ، وقوله :(
من ) لابتداء الغاية ، والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم ، كما تقول كتاب من فلان إلى فلان .
الثاني : أن يكون قوله :(
براءة ) مبتدأ وقوله :(
من الله ورسوله ) صفتها وقوله :(
إلى الذين عاهدتم ) هو الخبر كما تقول : رجل من
بني تميم في الدار .
فإن قالوا : ما السبب في أن
نسب البراءة إلى الله ورسوله ، ونسب المعاهدة إلى المشركين ؟
قلنا : قد أذن الله في معاهدة المشركين ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدهم ، ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك ، وقيل : اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين .
المسألة الثالثة : روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا بالأراجيف ، جعل المشركون ينقضون العهد ، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد إليهم .
فإن قيل :
كيف يجوز أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلم العهد ؟
قلنا : لا يجوز أن ينقض العهد إلا على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يظهر له منهم خيانة مستورة ، ويخاف ضررهم فينبذ العهد إليهم ، حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله :(
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ) [الأنفال : 58] وقال أيضا :(
الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ) [الأنفال : 56] .
والثاني : أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر الله تعالى بقطعه ، فلما أمره الله تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط .
والثالث : أن يكون مؤجلا فتنقضي المدة وينقضي العهد ، ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى العهد ، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة ، فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد البتة ؛ لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول ، والله ورسوله منه بريئان ، ولهذا المعنى قال الله تعالى :(
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) [التوبة : 4] وقيل : إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناسا منهم وهم
بنو ضمرة وبنو كنانة .
المسألة الثالثة : روي أن فتح
مكة كان سنة ثمان وكان الأمير فيها
عتاب بن أسيد ، ونزول هذه السورة سنة تسع ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012766وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه سنة تسع أن يكون على الموسم ، فلما نزلت هذه السورة أمر عليا أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء ، فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحقه قال : أمير أو مأمور ؟ قال : مأمور ، ثم ساروا ، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم ، وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، فقالوا : بماذا ؟ فقرأ عليهم [ ص: 175 ] ثلاثين أو أربعين آية ، وعن nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد ثلاث عشرة آية ، ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ، فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ، واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر
عليا بقراءة هذه السورة عليهم وتبليغ هذه الرسالة إليهم ، فقالوا : السبب فيه أن عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب ، فلو تولاه
أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهود فربما لم يقبلوا ، فأزيحت علتهم بتولية ذلك
عليا رضي الله عنه ، وقيل : لما خص
أبا بكر رضي الله عنه بتوليته أمير الموسم خص
عليا بهذا التبليغ تطييبا للقلوب ورعاية للجوانب ، وقيل : قرر
أبا بكر على الموسم وبعث
عليا خلفه لتبليغ هذه الرسالة ، حتى يصلي
علي خلف
أبي بكر ويكون ذلك جاريا مجرى التنبيه على إمامة
أبي بكر ، والله أعلم .
وقرر
nindex.php?page=showalam&ids=13974الجاحظ هذا المعنى فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
أبا بكر أميرا على الحج وولاه الموسم ،
وبعث عليا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة فكان
أبو بكر الإمام
وعلي المؤتم وكان
أبو بكر الخطيب
وعلي المستمع ، وكان
أبو بكر الرافع بالموسم والسابق لهم والآمر لهم ، ولم يكن ذلك
لعلي رضي الله عنه ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012767لا يبلغ عني إلا رجل مني " فهذا لا يدل على تفضيل
علي على
أبي بكر ، ولكنه عامل العرب بما يتعارفونه فيما بينهم ، وكان السيد الكبير منهم إذا عقد لقوم حلفا أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العهد والعقد إلا هو أو رجل من أقاربه القريبين منه كأخ أو عم ، فلهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القول .