ثم قال تعالى :(
يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ) .
واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية ، وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف ، نازلا إلى الأدون فالأدون ، ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين .
أما الأول فنقول : فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان ، وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله . وقوله :(
وجنات لهم ) إشارة إلى حصول المنافع العظيمة ، وقوله :(
فيها نعيم ) إشارة إلى
كون المنافع خالصة عن المكدرات ؛ لأن النعيم مبالغة في النعمة ، ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات ، وقوله :(
مقيم ) عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة ، ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات :
أولها :(
مقيم ) .
وثانيها : قوله :(
خالدين فيها ) .
وثالثها : قوله :(
أبدا ) .
فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، وذلك هو حد الثواب ، وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة ، ومن المتكلمين من قال :
قوله :( يبشرهم ربهم برحمة منه ) المراد منه خيرات الدنيا ، وقوله :(
ورضوان وجنات ) المراد منه كونه تعالى راضيا عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله :(
وجنات ) المراد منه المنافع وقوله :(
لهم فيها نعيم ) المراد منه كون تلك النعم
[ ص: 14 ] خالصة عن المكدرات ؛ لأن النعيم مبالغة في النعمة ، وقوله :(
مقيم خالدين فيها أبدا ) المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب .
وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول : المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله :(
يبشرهم ربهم ) .
واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين :
أحدهما : أن يفرح بالنعمة ؛ لأنها نعمة .
والثاني : أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه ، وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين ، فتأمل فيما إذا كان العبد واقفا في حضرة السلطان الأعظم ، وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته ، فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها ، فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة ، بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الإكرام ، فكذلك ههنا .
قوله :(
يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ) منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة ، ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة وإنما فرح ؛ لأن مولاه خصه بتلك الرحمة ، وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة ، ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضا درجات ، فمنهم من يكون فرحه بالراحم ؛ لأنه رحم ، ومنهم من يتوغل في الخلوص فينسى الرحمة ، ولا يكون فرحه إلا بالمولى ؛ لأنه هو المقصد ؛ وذلك لأن العبد ما دام مشغولا بالحق من حيث إنه راحم فهو غير مستغرق في الحق ، بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق ، فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق ، وغرق في بحر نور الحق ، وغفل عن المحبة والمحنة ، والنقمة والنعمة ، والبلاء والآلاء ، والمحققون وقفوا عند قوله :(
يبشرهم ربهم ) فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به ، وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ، ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية ، فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله :(
يبشرهم ربهم برحمة منه ) فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم ، بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشرا بالرحمة .
والمرتبة الثانية : هي أن يكون استبشاره بالرحمة وهذه المرتبة هي النازلة عند المحققين ، واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال :(
يبشرهم ربهم ) وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة :
أولها : أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان .
والثاني : أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله ، فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين ، وجب أن تكون البشارة بخيرات تعجز العقول عن وصفها ، وتتقاصر الأفهام عن نعتها .
والثالث : أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب ، وهو مشتق من التربية كأنه قال : الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ، ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة .
والرابع : أنه تعالى قال :(
ربهم ) فأضاف نفسه إليهم ، وما أضافهم إلى نفسه .
والخامس : أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال :(
يبشرهم ربهم ) .
والسادس : أن البشارة هي الإخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع ، أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة ، ألا ترى أن الفقهاء قالوا : لو أن رجلا قال : من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر ، فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق ، والذين يخبرون بعده لا يعتقون ، وإذا كان الأمر كذلك فقوله :(
يبشرهم ) لا بد أن يكون إخبارا عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك ، وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن ، والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها ألبتة ، رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه .
[ ص: 15 ] واعلم أنه تعالى لما قال :(
يبشرهم ربهم ) بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور :
أولها : قوله :(
برحمة منه ) .
وثانيها : قوله :(
ورضوان ) .
وأنا أظن والعلم عند الله أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله :(
ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) [الفجر : 28] والرحمة كون العبد راضيا بقضاء الله ؛ وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء ، ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله ؛ لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير .
فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزها عن التغير ، أما من كان طالبا لمحض النفس كان أبدا في التغير من الفرح إلى الحزن ، ومن السرور إلى الغم ، ومن الصحة إلى الجراحة ، ومن اللذة إلى الألم ، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عندما يصير العبد راضيا بقضاء الله فقوله :(
يبشرهم ربهم برحمة منه ) هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة ، ويجعله راضيا بقضائه ، ثم إنه تعالى يصير راضيا . وهو قوله :(
ورضوان ) وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله :(
راضية مرضية ) وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية ، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية ، وهي قوله :(
وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا ) وقد سبق شرح هذه المراتب ، ولما ذكر هذه الأحوال قال :(
إن الله عنده أجر عظيم ) والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال ، ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون : إن الخلود يدل على طول المكث ، ولا يدل على التأبيد ، واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية ، وهي قوله تعالى :(
خالدين فيها أبدا ) ولو كان الخلود يفيد التأبيد ، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكرارا وأنه لا يجوز .