( المسألة الثانية عشرة ) : اتفق المسلمون على أنه يحسن من الله تعالى
تعذيب الكفار ، وقال بعضهم : لا يحسن وفسروا قوله : (
ولهم عذاب عظيم ) [البقرة : 7] بأنهم يستحقون ذلك لكن كرمه يوجب عليه العفو ، ولنذكر ههنا دلائل الفريقين ، أما الذين لا يجوزون التعذيب فقد تمسكوا بأمور :
أحدها : أن ذلك التعذيب ضرر خال عن جهات المنفعة ، فوجب أن يكون قبيحا ، أما أنه ضرر فلا شك ، وأما أنه خال عن جهات المنفعة ؛ فلأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى ، أو إلى غيره ، والأول باطل ؛ لأنه سبحانه متعال عن النفع والضرر بخلاف الواحد منا في الشاهد ، فإن عبده إذا أساء إليه أدبه ؛ لأنه يستلذ بذلك التأديب لما كان في قلبه من حب الانتقام ؛ ولأنه إذا أدبه فإنه ينزجر بعد ذلك عما يضره .
والثاني أيضا باطل ؛ لأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى المعذب أو إلى غيره أما إلى المعذب فهو محال ؛ لأن الإضرار لا يكون عين الانتفاع ، وأما إلى غيره فمحال ؛ لأن
دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع ، فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى شخص آخر ترجيح للمرجوح على الراجح ، وهو باطل وأيضا فلا منفعة يريد الله تعالى إيصالها إلى أحد إلا وهو قادر على ذلك الاتصال من غير توسيط الإضرار بالغير ، فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة ، فثبت أن التعذيب ضرر خال عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل ، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضارا ، والجهل الذي لا يكون ضارا ، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار ؛ لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر ، وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر دون قبيح نفس الضرر ، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى ؛ لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح .
وثانيها :
أنه تعالى كان عالما بأن الكافر لا يؤمن على ما قال : (
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان ، فلو كان ذلك العصيان سببا للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقبا لاستحقاق العقاب ، إما لأنه تمام العلة ، أو لأنه شطر العلة ، وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبه لا محالة العقاب ، وما كان مستعقبا للضرر الخالي عن النفع كان قبيحا ، فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحا ، والقبيح لا يفعله الحكيم ، فلم يبق ههنا إلا أحد أمرين ، إما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب ، وكيف كان فالمقصود حاصل .
وثالثها : أنه تعالى إما أن يقال : خلق الخلق للإنفاع ، أو للإضرار ، أو لا للإنفاع ولا للإضرار ، فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك ، ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلا يؤدي بهم إلى العقاب ، فإذا كان قاصدا لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم ، وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سببا لاستحقاق العذاب ، ولا جائز أن يقال : خلقهم لا للإنفاع
[ ص: 51 ] ولا للإضرار ؛ لأن الترك على العدم يكفي في ذلك ؛ ولأنه على هذا التقدير يكون عبثا ، ولا جائز أن يقال : خلقهم للإضرار ؛ لأن مثل هذا لا يكون رحيما كريما ، وقد
تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيما كريما ، وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير ، وكل ذلك يدل على عدم العقاب .
ورابعها :
أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي ، فيكون هو الملجئ إليها فيقبح أن يعاقب عليها ، إنما قلنا إنه الخالق لتلك الدواعي ، لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها ، وبينا أن ذلك يوجب الجبر ، وتعذيب المجبور قبيح في العقول ، وربما قرروا هذا من وجه آخر ، فقالوا : إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر ، فإذا قيل لم قبل هذا وخالف الآخر ؟ فيقال : لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع ، والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى ، أو أن هذا أصغى إلى من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع ، وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصى ، فيقال : ولم أصغى هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم ؟ فنقول : لأن هذا لبيب حازم فطن ، وذلك أخرق جاهل غبي ، فيقال : ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك؟ ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه فإذا تناهت التعليلات إلى أمور خلقها الله تعالى اضطرارا علمنا أن كل هذه الأمور بقضاء الله تعالى وليس يمكنك أن تسوي بين الشخصين اللذين أطاع أحدهما وعصى الآخر في كل حال أعني في العقل والجهل ، والفطانة والغباوة ، والحزم والخرق ، والمعلمين والباعثين والزاجرين ، ولا يمكنك أن تقول إنهما لو استويا في ذلك كله لما استويا في الطاعة والمعصية ، فإذن سبب الطاعة والمعصية من الأشخاص أمور وقعت بتخليق الله تعالى وقضائه ، وعند هذا يقال : أين من العدل والرحمة والكرم أن يخلق العاصي على ما خلقه الله عليه من الفظاظة والجسارة ، والغباوة والقساوة ، والطيش والخرق ، ثم يعاقبه عليه؟ وهلا خلقه مثل ما خلق الطائع لبيبا حازما عارفا عالما ، وأين من العدل أن يسخن قلبه ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ولا يرزقه ما رزق غيره من مؤدب أديب ومعلم عالم ، وواعظ مبلغ ، بل يقيض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم فيتعلم منهم ، ثم يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم ، والعاقل العالم ، البارد الرأس ، المعتدل مزاج القلب ، اللطيف الروح الذي رزقه مربيا شفيقا ، ومعلما كاملا؟ ما هذا من العدل والرحمة والكرم والرأفة في شيء ! فثبت بهذه الوجوه أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول .
وخامسها : أنه تعالى إنما كلفنا النفع لعوده إلينا ؛ لأنه قال : (
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) [الإسراء : 7] فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع ، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنسانا ويقول له : إني أعذبك العذاب الشديد ؛ لأنك فوت على نفسك بعض المنافع ، فإنه يقال له : إن
تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر ، فهب أني فوت على نفسي أدون المطلوبين أفتفوت علي لأجل ذلك أعظمها ، وهل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول إنك قدرت على أن تكتسب دينارا لنفسك ولتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه غرض البتة ، فلما لم تكتسب ذلك الدينار ، ولم تنتفع به آخذك وأقطع أعضاءك إربا إربا ، لا شك أن هذا نهاية السفاهة ، فكيف يليق بأحكم الحاكمين ؟! ثم قالوا : هب أنا سلمنا هذا العقاب فمن أين القول بالدوام ؟ وذلك لأن أقسى الناس قلبا وأشدهم غلظة وفظاظة وبعدا عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوما أو شهرا أو سنة فإنه يشبع منه ويمل ، فلو بقي مواظبا عليه لامه كل أحد ، ويقال
[ ص: 52 ] هب أنه بالغ هذا في إضرارك ، ولكن إلى متى هذا التعذيب؟ فإما أن تقتله وتريحه ، وإما أن تخلصه ، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام ، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال ؟! .
وسادسها : أنه سبحانه نهى عباده عن استيفاء الزيادة ، فقال : (
فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) [الإسراء : 33] وقال : (
وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [الشورى : 40] ثم إن العبد هب أنه عصى الله تعالى طول عمره فأين عمره من الأبد ؟ فيكون العقاب المؤبد ظلما .
وسابعها : أن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته ، ألا ترى أن هذا الكريم العظيم ما بقي في الآخرة ، أو عقول أولئك المعذبين ما بقيت فلم لا يتوبون عن معاصيهم ؟ وإذا تابوا فلم لا يقبل الله تعالى منهم توبتهم ، ولم لا يسمع نداءهم ، ولم يخيب رجاءهم؟ ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال : (
ادعوني أستجب لكم ) [غافر : 60] (
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ) [النمل : 62] وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله : (
اخسئوا فيها ولا تكلمون ) [المؤمنون : 108] قالوا : فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب ، ثم قال من آمن من هؤلاء بالقرآن : العذر عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه :
أحدها : أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين ، والدلائل العقلية تفيد اليقين ، والمظنون لا يعارض المقطوع ، وإنما قلنا : إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين ، لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني ، وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية ؛ لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف ، ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر ، فكانت روايتهم مظنونة ، وأيضا فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير ، وكل ذلك أمور ظنية ، وأيضا فهي مبنية على عدم المعارض العقلي ، فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معا ، ولا يمكن
ترجيح النقل على العقل ؛ لأن العقل أصل النقل ، والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معا ، لكن عدم المعارض العقلي مظنون ، هذا إذا لم يوجد ، فكيف وقد وجدنا ههنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر ، فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية ، وأما أن الظني لا يعارض اليقيني فلا شك فيه .
وثانيها : وهو أن
التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين الناس ، قال الشاعر :
وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه يعد لؤما ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يصلح من الله تعالى ، وهذا بناء على حرف وهو أن أهل السنة جوزوا نسخ الفعل قبل مدة الامتثال ، وحاصل حروفهم فيه أن الأمر يسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به ، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر ، فإن السيد قد يقول لعبده افعل الفعل الفلاني غدا ، وإن كان يعلم في الحال أنه سينهاه عنه غدا ، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده في ذلك ويوطن نفسه على طاعته ، فكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غدا فإنه يحسن عند أهل السنة أن يقول : صل غدا إن عشت ، ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل المأمور به ؛ لأنه ههنا محال بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط ، وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد ، إذا ثبت هذا
[ ص: 53 ] فنقول : لم لا يجوز أن يقال الخبر أيضا كذلك ؟ فتارة يكون منشأ الحكمة من الأخبار هو الشيء المخبر عنه وذلك في الوعد ، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد ، فإن الأخبار على سبيل الوعيد مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات ، فإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه كما في الوعيد ، وعند هذا قالوا : إن
وعد الله بالثواب حق لازم ، وأما توعده بالعقاب فغير لازم ، وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم ، كالوالد يهدد ولده بالقتل والسمل والقطع والضرب ، فإن قبل الولد أمره فقد انتفع ، وإن لم يفعل فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته ، فإن قيل فعلى جميع التقادير يكون ذلك كذبا والكذب قبيح ، قلنا : لا نسلم أن كل كذب قبيح بل القبيح هو الكذب الضار ، فأما الكذب النافع فلا ، ثم إن سلمنا ذلك ، لكن لا نسلم أنه كذب ، أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا يسمى ذلك كذبا ، أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها ، ولا يسمى ذلك كذبا فكذا ههنا .
وثالثها : أليس أن آيات الوعيد في حق العصاة مشروطة بعدم التوبة ، وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا في صريح النص ، فهي أيضا عندنا مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا بصريح النص صريحا ، أو نقول : معناه أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب فيحمل الإخبار عن الوقوع على الإخبار عن استحقاق الوقوع فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب ، وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب ، فقالوا إنه نقل إلينا على سبيل التواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع العذاب فإنكاره يكون تكذيبا للرسول ، وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العقاب فهي مبنية على الحسن والقبح وذلك مما لا نقول به والله أعلم .