ثم قال تعالى :(
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) والمعنى كأنه قيل : قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال ، وقد شرحنا المنافع العظيمة التي تحصل عند القتال ، وبينا أنواع فضائحهم وقبائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم ، فتركتم جميع هذه الأمور ، أليس أن معبودكم يأمركم بمقاتلتهم ، وتعلمون أن طاعة المعبود توجب الثواب العظيم في الآخرة ؟ فهل يليق بالعاقل ترك الثواب العظيم في الآخرة ، لأجل المنفعة اليسيرة الحاصلة في الدنيا ؟ والدليل على أن
متاع الدنيا في الآخرة قليل أن لذات الدنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفات والبليات ، ومنقطعة عن قريب لا محالة ، ومنافع
[ ص: 49 ] الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفات ، ودائمة أبدية سرمدية ، وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا قليل حقير خسيس .
المسألة الرابعة : اعلم أن هذه الآية تدل على
وجوب الجهاد في كل حال ، لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل منكرا ، وليس لقائل أن يقول : الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه ؛ لأنه عليه السلام ما كان يخاف هجوم
الروم عليه ، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم ، ومنافع الجهاد مستقصاة في سورة آل عمران ، وأيضا هو واجب على الكفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين .
المسألة الخامسة : لقائل أن يقول : إن قوله :(
ياأيها الذين آمنوا ) خطاب مع كل المؤمنين .
ثم قال :(
ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) وهذا يدل على أن كل المؤمنين كانوا متثاقلين في ذلك التكليف ، وذلك التثاقل معصية ، وهذا يدل على إطباق كل الأمة على المعصية ، وذلك يقدح في أن إجماع الأمة حجة .
الجواب : أن خطاب الكل لإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن ، وفي سائر أنواع الكلام كقوله :
إياك أعني واسمعي يا جارة