صفحة جزء
[ ص: 65 ] ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين )

ثم بين ذلك بقوله تعالى بعد ذلك :( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ) .

اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنواع المفاسد الحاصلة من خروجهم ، وهي ثلاثة : الأول : قوله :( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الخبال : الشر والفساد في كل شيء ، ومنه يسمى العته بالخبل ، والمعتوه بالمخبول ، وللمفسرين عبارات ، قال الكلبي : إلا شرا ، وقال يمان : إلا مكرا ، وقيل : إلا غيا ، وقال الضحاك : إلا غدرا ، وقيل : الخبال : الاضطراب في الرأي ، وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لقوم آخرين ؛ ليختلفوا وتفترق كلمتهم .

المسألة الثانية : قال بعض النحويين : قوله :( إلا خبالا ) من الاستثناء المنقطع ، وهو أن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، كقولك : ما زادوكم خيرا إلا خبالا ، وههنا المستثنى منه غير مذكور ، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الأعم ، والعام هو الشيء ، فكان الاستثناء متصلا ، والتقدير : ما زادوكم شيئا إلا خبالا .

المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : إنه تعالى بين في الآية الأولى أنه كره انبعاثهم ، وبين في هذه الآية أنه إنما كره ذلك الانبعاث ؛ لكونه مشتملا على هذا الخبال والشر والفتنة ، وذلك يدل على أنه تعالى يكره الشر والفتنة والفساد على الإطلاق ، ولا يرضى إلا بالخير ، ولا يريد إلا الطاعة .

النوع الثاني : من المفاسد الناشئة من خروجهم قوله تعالى :( ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) وفي الإيضاع قولان نقلهما الواحدي :

القول الأول : وهو قول أكثر أهل اللغة ، أن الإيضاع حمل البعير على العدو ، ولا يجوز أن يقال : أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيرا حثيثا . يقال : وضع البعير إذا عدا ، وأوضعه الراكب إذا حمله عليه . قال الفراء : العرب تقول : وضعت الناقة ، وأوضع الراكب ، وربما قالوا للراكب : وضع .

والقول الثاني ، وهو قول الأخفش ، وأبي عبيد : أنه يجوز أن يقال : أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيرا حثيثا من غير أن يراد أنه وضع ناقته ، روى أبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة وعليه السكينة ، وأوضع في وادي محسر . وقال لبيد :


أرانا موضعين لحكم غيب ونسخو بالطعام وبالشراب



أراد مسرعين ، ولا يجوز أن يكون يريد موضعين الإبل ؛ لأنه لم يرد السير في الطريق . وقال عمر بن أبي ربيعة :


تبالهن بالعدوان لما عرفنني     وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا



قال الواحدي : والآية تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد .

[ ص: 66 ] واعلم أن على القولين فالمراد من الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنمائم ، فإن اعتبرنا القول الأول كان المعنى : ولأوضعوا ركائبهم بينكم ، والمراد الإسراع بالنمائم ؛ لأن الراكب أسرع من الماشي ، وإن اعتبرنا القول الثاني كان المراد أنهم يسرعون في هذا التضريب .

المسألة الرابعة : نقل صاحب الكشاف عن ابن الزبير أنه قرأ : " ولأوقصوا " من وقصت الناقة وقصا إذا أسرعت ، وأوقصتها . وقرئ : " ولأرفضوا " .

فإن قيل : كيف كتب في المصحف : " ولاأوضعوا " بزيادة الألف ؟

أجاب صاحب الكشاف بأن الفتحة كانت ألفا قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن ، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى ، ونحوه : " أو لاأذبحنه" .

المسألة الخامسة : قوله :( خلالكم ) أي : فيما بينكم ، ومنه قوله :( وفجرنا خلالهما نهرا ) [ الكهف : 33 ] . وقوله :( فجاسوا خلال الديار ) [ الإسراء : 5 ] . وأصله من الخلل ، وهو الفرجة بين الشيئين ، وجمعه خلال ، ومنه قوله :( فترى الودق يخرج من خلاله ) [ النور : 43 ] . وقرئ " من خلله " وهي مخارج مصب القطر ، وقال الأصمعي : تخللت القوم إذا دخلت بين خللهم وخلالهم . ويقال : جلسنا خلال بيوت الحي ، وخلال دورهم أي : جلسنا بين البيوت ، ووسط الدور .

إذا عرفت هذا فنقول : قوله :( ولأوضعوا خلالكم ) أي : بالنميمة والإفساد ، وقوله :( يبغونكم الفتنة ) أي : يبغون لكم ، وقال الأصمعي : ابغني كذا أي : اطلبه لي ، ومعنى ابغني وابغ لي سواء ، وإذا قال : ابغني ، فمعناه : أعني على ما بغيته . ومعنى " الفتنة " ههنا افتراق الكلمة وظهور التشويش .

واعلم أن حاصل الكلام هو أنهم لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالا ، والخبال : هو الإفساد الذي يوجب اختلاف الرأي ، وهو من أعظم الأمور التي يجب الاحتراز عنها في الحروب ؛ لأن عند حصول الاختلاف في الرأي يحصل الانهزام والانكسار على أسهل الوجوه . ثم بين تعالى أنهم لا يقتصرون على ذلك ، بل يمشون بين الأكابر بالنميمة ، فيكون الإفساد أكثر ، وهو المراد بقوله :( ولأوضعوا خلالكم ) .

فأما قوله :( وفيكم سماعون لهم ) ففيه قولان : الأول : المراد : فيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم ، وهذا قول مجاهد وابن زيد . والثاني : قال قتادة : فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم ، فإذا ألقوا إليهم أنواعا من الكلمات الموجبة لضعف القلب قبلوها ، وفتروا بسببها عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي .

فإن قيل : كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ونيتهم في الجهاد ؟

قلنا : لا يمتنع فيمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ، ولا يمتنع كون بعض الناس مجبولين على الجبن والفشل وضعف القلب ، فيؤثر قولهم فيهم ، ولا يمتنع أن يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساء المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتعظيم ، فلهذا السبب يؤثر قول هؤلاء الأكابر من المنافقين فيهم ، ولا يمتنع أيضا أن يقال : المنافقون على قسمين : منهم من يقتصر على النفاق ولا يسعى في الأرض بالفساد ، ثم إن الفريق الثاني من المنافقين يحملونهم على السعي بالفساد بسبب إلقاء الشبهات والأراجيف إليهم .

[ ص: 67 ] ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :( والله عليم بالظالمين ) الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم ، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات والمخالفات . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية