(
قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ) .
قوله تعالى :(
قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ) .
[ ص: 71 ] اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن عاقبة هؤلاء المنافقين هي العذاب في الدنيا وفي الآخرة ، بين أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة ، والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم ، وأن أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا وفي الآخرة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
حمزة والكسائي : " كرها " بضم الكاف ههنا ، وفي النساء والأحقاف ، وقرأ
عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة ، وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه ، والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك ، فقيل : هما لغتان . وقيل : بالضم المشقة ، وبالفتح ما أكرهت عليه .
المسألة الثانية : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : نزلت في
الجد بن قيس حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ائذن لي في القعود ، وهذا مالي أعينك به .
واعلم أن السبب وإن كان خاصا إلا أن الحكم عام ، فقوله :(
أنفقوا طوعا أو كرها ) وإن كان لفظه لفظ أمر ، إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء . والمعنى : سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم .
واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان ، فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر . أما إقامة الأمر مقام الخبر فكما ههنا ، وكما في قوله :(
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) [ التوبة : 80 ] . وفي قوله :(
قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) [ مريم : 75 ] . وأما إقامة الخبر مقام الأمر ، فكقوله :(
والوالدات يرضعن أولادهن ) [ البقرة : 233 ] .(
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ) [ البقرة : 288 ] . وقال
كثير :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله :(
طوعا أو كرها ) يريد طائعين أو كارهين . وفيه وجهان :
الأول : طائعين من غير إلزام من الله ورسوله ، أو مكرهين من قبل الله ورسوله ، وسمى الإلزام إكراها ؛ لأنهم منافقون ، فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه .
والثاني : أن يكون التقدير : طائعين من غير إكراه من رؤسائكم ؛ لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون الاتباع على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم .
ثم قال تعالى :(
لن يتقبل منكم ) يحتمل أن يكون المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتقبل تلك الأموال منهم ، ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله .
ثم قال تعالى :(
إنكم كنتم قوما فاسقين ) وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين . قال
الجبائي : دلت الآية على أن
الفسق يحبط الطاعات ؛ لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة ، وعلل ذلك بكونهم فاسقين ، ومعنى التقبل هو الثواب والمدح ، وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح ، فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى ، ثم إن
الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة ، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين ، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين ، والجمع بينهما محال . فكان الجمع بين حصول استحقاقهما محالا .
واعلم أنه كان الواجب عليه أن لا يذكر هذا الاستدلال بعدما أزال الله هذه الشبهة على أبلغ الوجوه ، وهو قوله :(
وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ) فبين تعالى بصريح هذا اللفظ أنه
[ ص: 72 ] لا مؤثر في منع قبول هذه الأعمال إلا الكفر ، وعند هذا يصير هذا الكلام من أوضح الدلائل على أن الفسق لا يحبط الطاعات ؛ لأنه تعالى لما قال :(
إنكم كنتم قوما فاسقين ) فكأنه سأل سائل وقال : هذا الحكم معلل بعموم كون تلك الأعمال فسقا ، أو بخصوص كون تلك الأعمال موصوفة بذلك الفسق . فبين تعالى به ما أزال هذه الشبهة ، وهو أن عدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقا ، بل بخصوص وصفه ، وهو كون ذلك الفسق كفرا . فثبت أن هذا الاستدلال باطل .